عَن أبِي هُريرةَ قَالَ قال رسُول اللّهِ صلى اللّهُ عليهِ وسلَم «ثلاثة لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» وقال صلى الله عليه وسلم «ثَلاثُ دَعَواتٍ مُسْتَجَابَات، لا شَكَ فِيهِن: دَعْوةُ المَظْلُوم، ودَعْوةُ المُسَافِر، ودَعْوةُ الوَالِدِ علَى وَلَدِه».
ما الذي يجمع بين الصائم والمظلوم والمسافر؟ هؤلاء الثلاثة ورد في النصُوص الشرعية أنهُم من مجَابي الدعوة بحيثُ تجدُ الصائم والمظلوم والمسافر ذَوي أنفُسٍ منكسرة للّه، فالصائمُ كسره الجوعُ والعَطش، والمظلوم كسَره الظلم الذي وقعَ عليه فهو ضعيفٌ مستضعف، أما المُسافر فقد كسرته الغُربة والبعد عنِ الأهل والوطن. إذًا فاللّه يَستجيبُ للدعاء في أحوال الإنكِسار، وفي أحوالِ الضُعف، وفي أحوالِ إظهار الإفْتقار، وفي أحوال الشّدَة.
سأكتبُ عن تجربتي حول غضِ البصر ولن أتناول الموضوع من ناحيةٍ شرعية، فالنصوص القرآنية معروفة والأحاديثُ النبوية الزاجرة عن هذا الفعلِ منقولة، ولكني سأحكي تجربتي الشخصية في غض البصر بعدَ أن أحبَ القلبُ وسكنَ لمحبوبته، وحالي قبل ذلك.
قبل أن ألتقي بمُلهِمَتي و قبلَ أن يسطعُ نورها مضيئاً ظُلمةَ حياتي، ومُؤنساً لوحشةِ قلبي، وسكناً لنفسيَّ التائهة، كنتُ لسنواتٍ وقبل بلوغي أجاهد لأغض بصري فتارةً أنجح وتارةً أفشل، إلى أن أكملت حِفظ القرآن وأنا في ١٥ من عمري وهناك بفضلِ الله أعطانيَّ اللّٰه القوة لمُغالبة الهوى والثباتِ على هديه. و عندي -حسب تجربتي- أن دوافع غض البصر هي ثلاث وقد تجتمع الدوافع كلها في الإنسان وقد يغيب بعضها وهي كالآتي:
الدافع الأول: الخوف من الله، وقد كان هذا حالي في البداية، فأنت تغالب نفسك لئلا تنظر إلى ما لا يحلُ لك. فالنفسُ تُحدثني بأن أنظر إلى الحرام ولكني كنتُ أتعفف، والعفيف ليس بفاقدٍ للغريزة، بل العفيفُ من غلبَ تقواه هواه. قبل أسابيع قرأت مقولةً للحسن البصري -رحمه اللّٰه- بعثَ بها لعمر بن عبد العزيز عندما وُليَّ الأخير الخلافة والذي قصد العالِم الجليل طالباً النُصح فكتبَ إليه: ("أما بعد فإذا وصلك كتابي هذا فاكتُب لي موعظةً وأوجز") فرد عليه الحسن البصري ("أمّا بعد، اعصِ هواك، والسلام").
الدافع الثاني: الزواج وهو مُعينٌ للدافع الأول فالناس ليسوا سواسيةً في تقواهم وورعهم، وقد تجد من يزجرهُ الخوف من اللّٰه، وآخر تجده يَغلِبُ تارة ويُغلب تارةً أخرى، و آخر يطلقُ بصره كليّةً. فالزواج هو الطريقة الصحيحة لإفراغ الشهوة. ثمَ إنكَ كرجل مطالبٌ بغض بصرك إحتراماً لزوجتك ومراعاةً لمشاعرها ووفاءاً لها.
الدافع الثالث: الحب وأتحدث عن الحب العظيم، الحقيقي، العفيف، البعيد عن تفاهاتِ -بعض- الروايات وسفالةِ الأفلام وسطحيتها. فالحب أعمى عيناي عن رؤيةِ أنثى غيرِ محبوبتي، فهي في عيني أجملُ الجميلات، وفاتنة الفاتنات. الحبُ أوصد أبواب قلبي فلا يدخلها غيرُها، فهي أحنُ من رأيت، و ألطفُ من عايشت. لقد ذكرتُ في البداية أنّ العفيف ليس بفاقدٍ للغريزة، بل العفيفُ من غلبَ تقواه هواه، أكتبُ والله يشهدُ أن اللّه بعد أنّ قذف حبها في قلبي ماعدتُ أجد تِلك المشقة في غَضِ البصر، ووالله لا أبالغ عندما أقول أنها إختفت نهائياً. يقولُ صلى الله عليه وسلم «..فإذا رأى أحدُكُمْ امرَأَةً فأعْجَبَتْهُ ، فَلْيَأْتِ أَهَلَهُ..» فالظاهر من الحديث أن الرجل إذا أُعجب بامرأة فليأت امرأته حتى يذهب عنه ما في نفسه، وعندي أن الرجل غيرُ المُحِب حباً حقيقياً كاملاً لا يشعر بذلك الإشباع العاطفي والجسدي إلا عندما يكون قرب زوجته، ولكن المُحب يأخذ معه هذه المشاعر معه أينما حل وارتحل فتلازمُ قلبه وجسده فلا يرى غير محبوبته مُشبِعَةً لاحتياجاته. فكلما مررتُ بنسوةٍ أستحضر صورتها وصوتها تلقائيا أمامي فأسعدُ وأذكر نعمة اللّه علي وأحمده سبحانه وأحُبها أكثر. والحبُ رزق وعندما أحببتُ حوريّةَ قلبي فقد أحببتها لذاتها، أحببتها في كل حالاتها النفسية، أحببتها كيفما كانت حالة جسدها و ملامحُ وجهِها.
ففي الدافع الأولى أنت تغض بصرك مخافاة الله، أما في الدافع الثاني فأنت تغض بصرك وفاءاً لزوجتك لأن الرجل إذا لم يُحبَ زوجته حباً حقيقياً فستبقى شهوة النظر لغيرِ زوجته موجودة ولو تزوجَ أجمل نساء الأرض. والعامل المُشترك بين الدافعين هي ورغم توفر الزاجر إلا أن الرغبة في الفعلِ ما تزال موجودة. أما في الدافع الثالث فتغضُ بصرك لأنك اكتفيت بمن هي عندك فلم تعد ترى غيرها ولا ترى أحسنَ منها خلقاً كان أو حياءاً أو أدباً أو جمالأً، بل واللّٰه لا رغبةَ لي في رؤيةِ أحسن منها. فسبحان من مكَّن الحُب على قلوبِ عباده.
أختم في هذا الجانب ببرنامجٍ قصير، ذو معانٍ جميلة، ورسالة هادفة يُدعى موعدٌ مع الحب للدكتور علي العمري -فك الله أسره- لمن أراد متابعته.
اختيار سورة صغيرة او بضع آيات تضع فيها شرحاً او نصيحةدينية
إنّ إعجاز القرآن الكرِيم لم يَتوقف عند روعةِ الألفاظ وجمال المعاني، بل هُناك وجهٌ آخر من أوجه الإعجاز ربما يغفل عنه كثيرٌ من الناس، ألَا وهو الإعجازُ التأثيري للقرآن، والمقصود به ذلك الأثرَ الظاهر أو الباطن الذي يتركه القرآن على قارئه أو سامعه؛ فتارةً تذرفُ العيون، وتارةً توجِل القلوب، وتارةً تقشعرُ الأبدان، وغيرِ ذلك من الآثار العملية التي لا يُحدثها في النفس إلّا القرآن. ومن بين الآيات التي تَرَكت أثرها الواضح عليّ آيتين كريمتن:
الآية الأولى{وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} فالميّتُ بعد موتهِ يتمنى الرجوع للدنيا ليتصدق، فهو لم يقل أخرني يا رب لأصلي، أو لأبُّر والديَّ، أو لأصوم أو لأحُج، بل قال حصراً {فَأَصَّدَّقَ} وذلك لما رأى من عِظَمِ أجر الصدقة وثِقلها في الميزان. فالصدقة تصل للميتِ بإجماع العلماء، وقد جاء في هذا أحاديث كثيرة عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم أنه سئل عن ذلك، قالت له امرأة: ("يا رسول الله! إن أمي ماتتْ ولم توص أفلها أجرٌ إن تصدقت عنها؟") قال «نعم»؛ وسأله رجلٌ مثلَ ذلك فقال صلى اللّٰه عليه وسلم «نعم». وقد تبدو الآية للوهلةِ الأولى أنها آية وعيد، وهي كذلك. ولكنها آية يربطُ الله فيها على قلوب المُحبين الذين فقدوا أحبائهم. يقول الله تعالى {... إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ ...} فأيُّ مُصيبةٍ أعظم بعدَ المصيبة في الدِين من مُصيبة الموت. فتخيل ميّتاً وقد إنقطع عملهُ و إذ بأجرٍ عظيمٍ يُكتب له فيقول مِن مَن هذا؟! فيُقال له من فلانٍ، تصدق عليك. فالأمر أشبه برجلٍ في صحراءٍ قاحلة وقد اشتدَ عليه الحرُّ والعطش وإذ بكَ تُغيثهُ بماءٍ بارد. فالصدقة أعظم هديةٍ يُمكن أن تُهديها لمن تُحب -حيّاً أو ميّتاً- وهي أصدقُ الطرق للتعبير عن الحب. و بينما أنا أكتبُ صادفتني مقولةٌ جميلة ومُعبرة لكاتبةٍ تُدعى كاثرين هثواي تقول ("إنك لا تعي حقاً معنى الموت إلا حينما تعرفُ الحب").
الآية الثانية{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونْ}. ما أكرمَ ربّنا سبحانه وما أعظمهُ وما أجلّه وما أرحمه بعباده جلاَّ وعلا، في كل مرةٍ أمرُ على هذه الآية إلا و تأثرت وفي أحيانٍ كثيرة تدمعُ عيناي. فالله سبحانه هو الذي يهدي عبده للإسلام ويعينه على الطاعات ويُبعد عنه وساوس الشيطانُ، ويُنعم عليه بالمال ثم يأتي سبحانه ليقول {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة} فاللّٰه يسألك من مالهِ الذي رزقكَ إياه ليضاعفهُ لك ويكون لكَ خير نافعٍ يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون. الله أكبر. أتذكرُ أنه بعد تدبري لهذه الآية -قبل سنوات- شاهدت بعدها بأيامٍ الشيخ البوطي -رحمه الله- يُفسرها:
أمراً طبياً تعلمه او تعلمته حديثاً قد تنصح فيه او تحذر منه
ما لم تَكُن مُختبئاً داخل كهفٍ جبلي طوال العشرِ سنواتٍ الماضية فأنت بالتأكيد قد سمعت عن ضرر طرق الإنتاج الحديثة وتأثيرها السلبي على كل ما حولنا من مأكلٍ ومشربٍ وملبس، فمعظم الناس يعرف أضرار الوجبات السريعة والمشروبات الغازية ومستحضرات التجميل والملابسَ المصنوعة من أقمشَةٍ صناعية؛ البلاستيك, الأسمدة الفلاحية، و غيرُها الكثير. إلّا أني كمطلعٍ على الإقتصاد بشكلٍ عام والصناعة بشكلٍ خاص فأنا أبحث بالتفصيلِ في كل منتجٍ، وأُحيط بالموضوع من ناحية إقتصادية إنتاجاً وتسويقاً، ثم من ناحيةٍ قانونية كالدعاوي القضائية التي رُفعت على المُصَنِع، مروراً بالناحية السياسية وتأثيره على العلاقات الخارجية وتمرير وإلغاء القوانين الداخلية، وصولاً للناحية الصحية وتأثير هذا المنتَج على اليد العاملة والمُستهلك والأطراف الثالثة -خاصةً شركات الأدوية- إيجاباً كان أو سلباً.
لقد فكرتُ عن أكتُب عن مُنتجٍ مضرٍ قد لا يُلقي الكثيرُ له بالاً ولا تُعير وسائل الإعلام له إهتماماً. فمُعظم الناس يجهلون أنّ مُخففات اللهب موجودةٌ في آرائكنا -بشكلٍ خاص- وكراسينا وأسِرَتِنا، والُمثيرُ للإهتمام أنها تحتوي على موادَ كيماوية تُقاس بالأوقية والباوند، حيثُ يبلغ متوسط مخففات اللهب الموجودِ في الأريكة العادية ٢ باوند! و تمتصُ أجسادنا هذه المواد الكيماوية التي تخرجُ من الرغوة وتنتقل بواسطة الغبار، وهي مرتبطةّ بمشكلاتٍ صحيةٍ خطيرة -السرطان، إنخفاض الخصوبة، إنخفاض وزن الأطفال عند الولادة، مشاكل الغدة الدرقية ...- و الأطفال هم الأقلُ مقاومةً ضدها والأكثر عرضة للإصابة بالأمراض التي تُسببها، كما أن دراساتٍ عديدةً أُجريت أثبتت وجودها في حليبِ الأمهات! لكن السؤال المهم هل تحمينا مُخففات اللهب من الحرائق؟ الإجابة المُختصرة هي لا.
في السبيعينات كان آلاف الأشخاص في الولايات المُتحدة يموتون في حرائق تسببها السجائر، فعندما يُشعل أحدهم سيجارة ويضعها جانباً فقد تضلُ تحترق لـ ٣٠ دقيقة بعد وضعها. وقد كانت شركاتُ التبغ تتعرض لضغطٍ هائل لدفعها لصنعِ سجائر تنطفىُ بشكلٍ ذاتي، و لكن الأخيرة ضلت مُتمسكة برأيها بأن هذا غيرُ ممكن لأنهم ببساطة لم يرغبوا بتعديلٍ مُنتجٍ يُدِر عليهم مليارات الدولارات سنوياً. و لمواجهة موجةِ الإستياء هاته إحتاجت شركات التبغ لكبشِ فداء لإلقاء اللوم عليه وقد وجدوا ضالتهم في الأثاث، بحيث يجبُ أن يتحمل الأثاث اللوم على آلاف الأرواح التي أُزهقت بفِعل الحرائق. ولأوضّح لكم سفالةَ وإجرام هؤلاء القوم فقد أرادو باختصار جعل العالم حولهم مضاداً للحرائق التي يُعد مُنتجهم سبباً من أسباب إشعال لهيبها بغض النظر عن مدى صحيّة حلّهم المزعوم. ولفعل هذا فقد إحتاجوا لطرف ثالث موثوقٍ ليظهر للعلن ويُمرر أفكارهم للعامة وقد وقعَ إختيارهم على مُجتمع مكافحة الحرائق -الحماية المدنية- والذي في الأصل يُعد عدواً لشركات التبغ لأن رجال مكافحة الحرائق هم من سيوثّقُون في مستندات التحقيق أن سبب الحريق كانت سيجارة، لذا فقد كان لابد من تحييّدهم.
كان ثمةَ رجلٌ في معهد التبغ يُدعى "بيتر سباربر" تمَّ
دسُّه داخل الرابطة القومية لرجال الإطفَاء على مستوى ولاية شيكاغو، وقد إختاره رجال الإطفاء ليكون ممثلهم التَشريعي و الذين لم يعلموا أن "بيتر سباربر" كان يتقاضى ٢٠٠ دولار للساعة من شركات التبغ مقابِل عملٍ كانوا يظنونه تطوعياً، فقد كان الرجلُ أشبهَ بجاسوس حيثُ يدخلُ ويخرجُ على رجال الإطفاء وقد نجح في إقناعهم أن عليهم توجيهَ الرسالة التِي تُريدها شركات التبغ والتي مفادها أن السجائر ليست السبب وراء الحرائق، بل هو الأثاث. لذا اُضطر المصنعون لوضع آلافِ من المواد الكيمائية السامَّة في وسائدِ آرائكنا. يقول "بيتر سباربر" عن فعالية تطبيقِ إستراتجيته الماكرة ("إذا نجحتم معَ شركاتِ التبغ، يُمكنكم النجاح بأيِّ شيءٍ في مجالِ العلاقات العامة")، و قد عمل بعدها هذا النذل لشركاتِ النفط، وشركات المبيدات الحشرية وغيرها.
لذا إن كنتَ تنوي مستقبلاً شراءَ أريكة أو كرسيٍ فاحرص على إقتناء نوعٍ لا يحتوي على مُخففات اللهب.
مع إقترابِ نهاية شهر رمضان يبدأُ أربابُ البيوت في الطوفان بأبنائهم وبناتهمْ بمختلفِ الأسواق والمَحَال قاصدين إدْخال البهجة والسرور على قلوب فلذات أكبَادِهم بملابِس العيد، وينسى كثيرٌ منهم أو يتناسى -للأسف- مُكابدة أم أبناءه خلال شهر رمضان في إعدادِها ما يُحب ويشتهي من مأكولات وقضائها لشؤون البيتِ من تنظيفٍ وترتيبٍ دونَ تذمرٍ أو امتعاظ، على الرُغمِ من مشقةِ الصيام وكثرة الأعباء من تربيةٍ للأبناء وحقوقٍ للزوج واجبةُ الأداء، بالإضافة لأمورٍ أخرى تعرفونها وأعرفها، فلا يصلُ آخر الشهر إلا وقد خارت قُواها وأُنهِكَ جسدُها وفتُرت عزيمتها وتعبت نفسيتها، ألا تستحقُ هذه الملاك هديةً منك -على قدر الحال- لتُعبر لها عن حُبكَ لها؟، عن تقديركَ واحترامك لشخصيتها، وعن شكركَ وامتنانِك لتَعبها وتضحياتها.
إن هذه الطرقَ في التعبير عن الوّد والمحبة وإيصال معاني الإجلال والتوقير لشريكة حياتك تكادُ تكون معدومة في نفوس كثيرٍ من رجال اليوم، ولئن توجهتَ إليهم بالنصح والوعظ لأعرضوا عنك ووصفوك بتهكم "رومانسي" ، و قد يُجادلك بعضهم بالقول أنَّ المرأة قد كبُرت على هذه الأمور، أو أنَّ ضيق المعيشة يمنعه من إكرامِ زوجته، بل ويذهبُ بعضهم إلى أن القيام بجميع أعباء البيتِ هو واجبٌ على المرأة ولا يحتاجُ أن يكافئها على جهدها -أي تقضي بلا مزية منها-.
ولن أسترسلَ في الرد على أصحاب القول الأخير لأن الشرع فصّل فيه وبيّن بلا ما يدعُ مجالاً للردِّ أو الإجتهاد "الفيسبوكي" أن المرأة ليست ملزمةً بخدمة الزوج أو أهله، ولو افترضنا -جدلاً- أنها مُلزمة بخدمتك أفلاَ تستحقُ منكَ لفتةً طيبةْ بهديةٍ تُدخل بها البهجة على قلبها وتزرعُ الإبتسامةً على خدها؟!، فنحنُ العرب أهل الكرم والجود، والبذلِ والإيثار، ولو أنَّ كثيراً منا قد طلقَ هذه الخِصال ثلاثاً فلم تعد تلتمسُ لقلبه طريقاً تُليّن به قسوةَ قلبه وتُمِدُ يده سخاءاً وجوداً. وفي هذا المقام حضرتني أبياتٌ مشهورة للمتنبي يقول فيها:
والْجَدُّ مقصودٌ به الحظُ و النصيب. أما من يتحجَجُ بضيقِ الحال وقلة الرزق فنقولُ له أنَّ اللّٰه لا يُكلفُ نفساً إلاّ وسعها، وزوجتك أعلمُ الناس بك وبأحوالك وبناءاً عليه سترتسمُ في ذهنها صورةٌ لنوعية هداياكَ وقيمتها -المادية- وفي كثيرٍ من الأحيان لن يخيبَ ظنها أو يصيبها الإحباط، بل سيزيد تقديرها واحترامها لك لأنه وبرغم من قلة مالِك وفوضى التفكيرِ بطرق تحصيل الرزق التي تملءُ جوانب عقلك إلاَّ أنك تذكرتها ونويتَ إسعادها. فكما أنَّ الرجل كائنٌ بصري ينجذب للمرأة ومفاتنها فهو مأمورٌ بغض بصره {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، فمتى ما امتثل المسلم لأمر ربّه وغضَّ بصره عن من لا تحلُ له، اكتفى بزوجته مُعفِةً له ولرآها أجمل نساءَ الأرض فلا ينظر لغيرها ويسدُ باب المقارنة في نفسه بينها وبين غيرها من النسوة، وهو بابٌ يدخل منه الشيطان ليهدمَ بيت الزوجية؛ ونفس الأمر ينطبقُ على المرأة التي هي كائنٌ عاطفي تُحب الكلام الطيّب، والتغزل فيها وفي جمالها، وتدليلها، فإن هي امتثلت لأمر ربّها بأن لا تنظر لقريناتها المتزوجات وما حظين به من هدايا -من ناحية القيمة المادية- من أزواجهن لاكتفت بما يهديه لها زوجها ولو كان بسيطاً {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. فالهدية لا تقاسُ بقيمتها المادية وإنما بقيمتها المعنوية بما ترمز إليه من محبةٍ ونقاءٍ وحسنِ سريرة، فالهدية على صِغَر حجمها وزهادة قيمتها تفعل ما لا يستطيع غيرها فعله في كسب ودِّ الناس وجلب حبهم، وقد جاء في الأثر «تَهَادَوْا تَحَابُّوا».
وأما "الناضجون" الذين يقولون أن المرأة كبُرت على الهدايا فاعتقادهم هذا خاطئ، وتفكيرُهم محدودٌ -عاطفياً-، وفهمهم لنفسية المرأة بل لنفسية الإنسان ذكراً كان أو أنثى هو فهمٌ قاصرٌ سطحي. والرجلُ برغم القوة التي أودعها اللّٰه عزَ وجلَّ فيه إلاًَّ أنه يضلُ محتاجاً لحضن امرأة تحتويه كاحتواءِ الأمِ لابنها، بل ذهب بعضُ علماء النفس إلى القول بأن الرجل طفلٌ كبير. وقد عادَ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إلى بَيته بعد رؤيته جبريلَ في غارِ حراء وقد اشتدَّ بهِ الخوف، فكان أولُ ما فعله أن جلس إلى جوار خديجةَ رضي الله عنها؛ بل إنه اقترب بها ليسْكن فؤاده، كما تقول الرواية «فَجَلَسْتُ إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إلَيْهَا». أي ملتصقًا بها يطلبُ الأمان صلى اللّٰه عليه وسلم، وحكى لها كلَ شيء، مع خطورة الحدث الذي مرَّ به. فكيفَ بالمرأة التي هي آلةُ العاطفةِ والحبِ والجمال، من تُؤثِرُ فيها الكلمة وتهزُها المواقف، فقلبُ المرأة بلورةٌ ثمينة وغاليةٌ جداً وجبَ على كلٍ رجلٍ حِفظهُ وصَونه وإيلاءِهِ عنايةً خاصة. ويُقال أن المرأة تحملُ معها براءتها العذبة وعفويةَ أفعالها ودلالها الطفولي مهما تقدم بها العمر، وهو قولٌ أتفق معه تماماً. ولو تأملَ الرفقاء "الناضجون" في علاقة الأنثى بأبيها لتبيّنوا الأمر، فمهما كبُرت الفتاة وازدادت علماً ونضجاً إلا أن جلسةً لدقائق معدودة مع أبيها كافية لإخراج تِلك الطفلة البريئة بداخلها، لماذا؟ لأنها تشعرُ بالأمان معه، فترتاح له وتأمنَ نفسها قُربه، ولا تخاف منه. وكزوجٍ فأنت تعلم أن طاعة زوجتك لك هي مقدمةٌ على طاعتها لأبيها، أليسَ من العدل أن تعاملها أنتَ بأفضلِ مما يعاملها أبوها، أو على الأقل أن تعامِلها بنفسِ معاملةِ أبيها لها؟!.
وعندي أن هديةً في آخر الشهر هي أقلُ ما يمكنُ أن تُقدمه لزوجتك كامتنانٍ وإعترافٍ لفضلِها عليك، ولا أدري ما المانعُ في أن تساعدَ زوجتك في أشغال البيت كأن ترتب الغرفة مثلاً -وهو أمر تفعله ولو كنت عازباً- أو أن تغسل ثيابك وثيابها متى ما سنحت لك الفرصة، أو تغسل أو تقشر فاكهةً أو خُضراً عوناً لها، أو أن تنهض قبلها من حينٍ لآخر وقت السَحور فتُعِد طعاماً ولو كان بسيطاً فتحمله لسريركما وتطعمها خاصة في أيام تعبها، وفي الصحيح «إنَكَ لن تُنْفق نَفقَةً تبتغِي بها وَجه اللّٰه إلا أُجرٰت عَلَيها، حَتى مَا تَجْعَلُ فِي فمِّ امٍرَأتِكْ». و لا أدري كيف يُمكن لزوجٍ مُحبٍ أن يتكئ بعد الإفطار ويحتسي كوب قهوتهِ تاركاً تِلك المسكينة التي تعبت طوال اليوم تغسل الأواني لوحدها! ما المانع أن تنهض لتساعدها وتمازحها لتخفف عنها تعبها وفي أغلب الأحوال لن يأخذ الأمر أكثر من ١٥ دقيقة. ما المانع أن تشكر زوجتك بعد كل وجبةٍ -في رمضان أو غيره- وتمدحَ طبخها وتُقبِّل يديها شُكراً لها. يقول علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه عن زوجته فاطمةَ رضي الله عنها ("...وواللّٰه وواللّٰهِ ما رأيتُها يوماً إلاَّ وقبلْتُ يدها").
وقد يقول أحدهم بأني كرجلٍ مكانيَّ في الخارج، وهذا حَسن؛ ولكن الخروج في ديننا هو خروجُ الرجل لطلب الرزق أو الجهاد، أو لتلبيغ رسالةٍ أو تحصيلاً لمنفعةٍ أو طلباً للعلم، أو لقضاء حاجةٍ لأهله أو لقريبٍ أو لأخٍ مُحتاج، أو لصلة رَحِم، وليس مقصوداً بالخروج القعودُ على أرصفة الشوارع والتي يغلبُ على مجالسها أحاديثُ الغيبة والنميمة، وإطلاقِ البصر لكلِ امرأة تمر أمامك، والخروج لا يكون لملءِ كراسي المقاهي ولعبِ "الكارطة والديمينو". ثمَ إنَّ الكثير يرى أنه من العيب أن يقوم الرجل بمساعدة زوجته!. عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّها سُئِلت ما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعمَلُ في بيتِه؟ قالت (" كان يَخيطُ ثوبَه ويخصِفُ نعلَه ويعمَلُ ما يعمَلُ الرِّجالُ في بيوتِهم"). فالنَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان لا يَترفَّعُ عن مُساعدةِ نِسائِه في أعمالِ البيتِ وخِدمتِهِنَّ، وفي رِوايةٍ لأحمدَ ("كان بَشَرًا مِن البَشَرِ؛ يَفْلي ثوبَه، ويَحلِبُ شاتَه، ويَخدُم نفسَه"). وبعضهم قد يتحججُ بضيقِ الوقت وكثرة الأشغال، فهذا رسولُ اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يحملُ همَّ أُمة فيُعِدُ الجيوش، ويضطلعُ بسياسة الدولة وشؤونِها، ويبيّن للناس أمورَ دينهم ودنياهم، ومع ذلك لم ينسى رسول اللّٓه صلى اللّٰه عليه وسلم أهل بيته، فما عذرك؟!. وفي هذا الشأن يقول النابلسي:
وهناكٌ جمعٌ من الناس يعتقد أن إظهار الحب للزوجة ضعف، والحب أفعال كما بيّنا، ولطالما ارتبط اسمُ القادة العسكريين في أذهان هؤلاء بالقوة والجَلَدِ والرجولة، ولكنهم تغافلوا عن مواقفَ وأحداثٍ عِظام في سيِّر هؤلاء جَسدت أسمى درجات الحب والوفاء، فهذا علي بن أبي طالب والذي تفرد بين الصحابة بالفروسية يقول عن فاطمة رضيَّ اللّٰه عنها ("فأحببتها حباً عظيماً فواللّٰه ما ناديتها يوماً يا فاطمة، ولكن كنت أقول يا بنت رسول اللّٰه، وما رأيتها يوماً إلا وذهب الهم الذي كان في قلبي، وواللّٰه ما أغضبتُها قط ولا أبكيتُها قط...")، وهذا قائد المُسلمين في عين جالوت -واحدةٌ من أهم المعارك في تاريخ الإسلام- سيف الدين قطز يسأل عند ضربِ الأمراء المماليك له قبل موته عن سبب هذا الفعل، فأجابه الظاهر بيبرس أنه شكَّ في وجودِ نيّةٍ للنيلِ مِنهُ وقتلِه، فنفى قطزُ ذلك وأخبرهُ أنه كان سيعطيه السلطان، وعفا عنهُ القائدُ الحليم لأنه أراحه من غمِّ العيش بعد مقتل زوجته جلنار!.
لقد اُبتلينا بأقوامٍ يأخذون من كتاب اللّٰه وسنة نبيه ما يشاؤون ويتركون ما يُريدون، فيحفظون {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، {فَاضْرِبُوهُنَّ}، {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}، و يغفلون عن {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، «رِفقاً بِالقَوارِيرْ»، «خَيرُكُمْ خَيرُكُمْ لِأهْلِهْ»، «مَا أَكرَمَ النِّسَاءَ إلَّا كَرِيمٌ ولا أَهَانَهنَّ إلاَّ لَئِيمٌ» ورُبَّ صُدفةٍ تأتينا بما سعينا إليه، فبينما كنتُ أتصفح مدونات الجزيرة شدَّ انتباهي مقالٌ يُوضّح التفسير الصحيح لعوجِ المرأة الذي أتى ذكره في الأحاديث النبوية، والمقال بعنوان "خُلقت المرأة من ضلعٍ أعوج!" تجدون رابطه هنا. وأختمُ بمقطعٍ قصير لفضيلة الشيخ التونسي منير الكمنتر -حفظه الله-:
لعلَّه قد مر عليك موقفٌ في حياتك أو مقطعٌ على الإنترنت ترى فيه دخولَ الرجل لبيته ومعهُ هدايا لأبنائه وزوجته، فمبجردِ دخوله المنزل فهو يبادرُ باحتضان أبنائه فيُقبلَهم ويلاعبهم ويتفننُ في طرق مفاجئتهم وقلبهُ يطيرُ فرحاً قبل قلوبهم؛ ثمَّ يُناظر زوجته فيعطيها هديتها ببرودٍ وقد تصاحبها إبتسامةٌ خفيفةٌ هي في الأصل بقايا من كومة الإبتسامات التي وزعها على أطفاله، وهذا خطأ. فزوجتُكَ هي طفلتُك قبل أن يكونوا هُمُ أطفالك، ولهذا فالأوجبُ والأكمل أن تمسكَ يدها وتختليَّ بها بعيداً عن أطفالكما، فتُقبّل يديها ورأسها، وتلاطِفها، وتُغدق عليها بكلماتٍ رقيقة وحانية، وتتغزل في حُسنِها وجمالها، وتجودَ عليها بابتساماتٍ صادقة ونظراتٍ ترى فيها لهفتك عليها، وشوقَك إليها، واستغنائكَ بها، فتطيبَ نفسُها ويرضى قلبُها وتسعدَ روحها وينشرحَ صدرُها. يقولُ رسول اللّٰه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم «تبسُّمُك في وجهِ أخيك صدَقة».
عيدُ فطرٍ سعيد كوجهك الباسم، عيدُ فطرٍ سعيد كابتسامتك البّراقة، عيدُ فطرٍ سعيد كبراءَة ملامحك، عيدُ فطرٍ سعيد كَروحك النقيّة، عيدُ فِطرٍ سعيد وكل عام وأنتِ بخير وصِحة وعافية.
السلامُ عليكم
كتبتُ سريعاً رأيي بهذه المسألة، وأعتذر على الأخطاء اللغوية والنحوية ...
جميعنا نحب فعل الخير، وما أجمل ذلك! لا نتردد بمساعدة الأخرين
ونشعر برضى تام وسعاده وفخر بأنفسنا بأننا قمنا بعمل جيد! تقريباً..
لكن ماذا لو.. تحول الأمر لإستغلالنا واستهلاك طاقتنا
للحد الذي لن نتمكن فيه من قول لا !!
إن كنتُ أحوزُ ما يبتغي ويطلب، مالاً كان أو وقتاً يطلبه لأداء خدمةٍ أو عملٍ ما، فسأفعله لوجه اللّٰه غير آبهٍ بحقيقة ظهوره وقت حاجته فقط.
جميعنا نحب فعل الخير، وما أجمل ذلك! لا نتردد بمساعدة الأخرين
ونشعر برضى تام وسعاده وفخر بأنفسنا بأننا قمنا بعمل جيد! تقريباً..
لكن ماذا لو.. تحول الأمر لإستغلالنا واستهلاك طاقتنا
للحد الذي لن نتمكن فيه من قول لا !!
لابّد أن نتفق أن هذا الموضوع طويلٌ ومتشعب أكثر مما يبدو عليه في الواقع، وينبغي في البدء أن نُقسم الموضوع لأجزاء، فالتعاملُ مع المُستغلُ لك -بالمفهوم الدنيوي- يختلفُ باختلاف صلة القرابة بينكَ وبينه، ومدى تأثرِك أولاً وتأثر من حولك بما يطلبه منك ثانياً.
أولاً كيف يُؤثرُ عليكَ: فعندَ قدوم أحدهم طالباً مسألةً ما والمُتمثلة غالباً في طلبٍ للمال، أو الوقتِ. أما طلبُ المال فشأنه معروف، وأما الوقتُ فيكون لأداء خدمةٍ أو طلباّ لحاجةٍ. فببساطة -برأيي- كمؤمن عليك أن تُغفل حقيقة أن هذا السائل لا يأتيك إلا وقتَ حاجته وتُركز على حقيقتين متمثلتان في سؤالين تطرحهُما على نفسك بالترتيب، أأملكُ ما يطلبه السائل مالاً كان أو وقتاً أو مهارة؟ فإن كانت الإجابة بنعم فسأل نفسك هل مساعدتي له هي في أمرٍ يرضاه اللّٰه ورسوله؟ فإن كانت هي أيضاً بنعم، فاعزم واحتسب أجرك عند الله.
ثانياً صلة القرابة بينك وبين السائل: فالسائل يختلف باختلاف درجة قرابته لك، ولنأخذ الوالدين مثالاً، فهناك آباءُ مستغلون وأُمهاتٌ مُستغلات.
لسنواتٍ عديدة عمِلَ معي أحد الشباب الأخيار الطيبين، كان يكبرني بعامين وقد كان آيةً في حسنِ الخلق والوقار لكنه كان شديد الخجل، وقد كان يحكي لأحد أصدقائي القدامى إستغلال أبيه له وظفره بكلِ ما يجنيه بعرق جبينه، وأعرفُ آخرَ يطلبُ منه والده المال ليشتري به السجائر!. وكمُسلم فأنت تُعطي والديك المال ولو كُنت في ضيّق بل وتستلف لأجلهم، أو تخلقُ وقتاً لقضاء حاجتهم أو غير ذلك؛ على الرغم من إستغلال الكثير من الأباء والأمهات لبر الوالدين وفهمهم الخاطئ لهذا الأمر الإلهي، إلا أن حِفظ الودِ أرجى وأفضل. وكملاحظة فإني أتحدث عن طلباتِ الوالدين المُستغلين التعفسية و اللإنسانية في حق أبنائهم وبناتهم، وقد يصبرُ الواحد فيهم إن اقتصر ضرر تنازلاته على نفسه ولم يتعداهُ لمن حوله وهذا يقودني للنقطة الثالثة.
ثالثاً درجة تأثر من حولك: قبل سنة من الآن عرفتُ أنَّ أحد الأئمة الذين أعرفهم كان له ابنٌ متزوج وصدف أن ابنة الإمام مُتزوجةٌ من أخ زوجة ابنه، وحدثَ أن طُلقت ابنته فقصد الإمام ابنه مُتسلحاً بمرسوم "بر الوالدين" طالباً إيَّاه تطليق زوجته إنتقاماً من أخيها وأهله! وهذا فعلٌ شائنٌ وطلبٌ رخيص لا يسأله عاميٌ لولده، فكيف بإمامِ مسجد يُؤمُ الناس في الصلواتِ الخُمس والتراويح، فما كان من الإبن الشهِم إلا أن رفض هذا الطلب الجائر الأمر الذي كلفه الطرد من المنزل. و فعل الإبن هذا هو البر بذاته، فهو بفعلهِ يدفعُ الخطيئة عن والده. فلو امتثلَ الإبن لطلبِ أبيه لظلم زوجته، وفي الصحيح «اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة»، ففي هذه الحالة يتعدى ضرر تنازلُ المعطي ليصلَ لمن حوله فيقومَ الأخير بتحديد الأولويات، وفي هذه الحالة فلُن يُسأل الإبن عن رفضه طلب الأب بل سيُسئل عن ظلمه لزوجته. وقس على ذلك الإستمرار في إعطاء المال للوالدين المستغلين -فوق طاقتك- فتقوم بفعلك هذا بالتضييق على زوجتك وأبنائك. ومجدداً فإني أتحدثُ عن الوالدين المُستغِلَين فقط.
فخلاصة القول أن الأفضلَ للمُسلم أن يُعين ذي الحاجة إن كان ذو مقدرة وإن لم يستطع فليعتذر بلُطف.
وبما تنصح من يقع بهكذا موقف حتى لا يبدو ضعيف الشخصية؟
أنصحه ببساطة وبدون حشوِ المقالة بسخافاتِ التنمية البشرية أن يتشجع ويقول "لا".
قبل سنواتٍ وعند معرفتي بحرمة مصافحة النساء من غيرِ المحارم ذُهلت كيف أني لم أعلم بهذا الأمر في مرحلةٍ مُبكرة من عمري واستصعبتُ الأمر، كيف يُمكنني الآن تجاهل زوجات أخوالي واللاتي يعرفنني قبل بلوغي، ماذا عن بنات عمي وبنات عماتي؟ بل كيف سأصنعُ مع زوجاتِ أبناء عمومتي!! جاء العيد وعزمتُ ألا أصافح امرأةً من غير محارمي وبالطبع فقد فشلتُ فشلاً ذريعاً؛. ولكني لم أستسلم وواصلت المحاولة إلا أن نجحتُ مرةً واثنتين وبعدها فشلتُ مرة أخرى، وهكذا كنتُ مابين كرٍ وفر، ومردُ ذلك أني لم أواجه الأمر بشجاعة بل كنتُ أتخيرُ الأوقات التي تكون فيها عماتي لوحدهن وأذهب لزيارتهن، أو أنتظر بيتَ أهل أمي ليفرُغ لأنال فرصةَ زيارة جدي وجدتي، إلى أن جاء يوم وذهبتُ لبيتِ أهل أمي لزيارة خالتي والتي تقطنُ في مدينةٍ غيرِ مديتنا، وأول ما دخلت المنزل رأيتها جالسة وبقربها زوجة خالي، وقد تشتت تفكيري ولم أُحس بقدماي، ماذا سأفعل؟ لكني بطريقةٍ ما إستجمعتُ قواي وقلتُ لنفسي ما معناه "تباً لك، استرجل" تقدمت لخالتي وسلمت عليها وعانقتها ونظرتُ لزوجة خالي وقلت لها ("أهلا، كيف حالك؟") بدون مصافحة، وعلى غير ما توقعتُ فقد خرجتُ من هناك سعيداً جداً ومرتاح البال، ولستُ متأكداً مِن أين جئتُ بتلكَ الشجاعة وقد كنتُ لا أزال مراهقاً، إلا أني متأكدٌ من شيء واحد وهو أني نِلتُ شتى أنواع الدعاء من خالتي حفظها اللّٰه بعدم التوفيق -الله لاتربحك- وكسر اليدين -يعطيك كَسْرَى فيديك- وأكل السم -يعطيك لَوْيَّة وعقرب حيّة- واللوية هي الكفن . ومنذ ذلك الموقف فقد إختفت تلك الرهبة في نفسي من مصافحة غير المحارم وصرتُ معروفاً في العائلة على الرغم من أني أتعرض لكثيرٍ من الأحيان للتهكم والسخريّة من ورائي.
فبمُجردِ مواجهة السائل وجهاً لوجه وقولك "لا" للمرة الأولى سترى أن الأمر ليس بتلك الصعوبة، ولن تجدُ تلك المشقة في رفض من يستغلك. على عكس ما سيكون عليه الأمر في حال تهربكَ من الشخص السائل. قد تبدو نصيحةً سخيفة لكنها بسيطة.
قبل البدء أودُ أن أوضح نقطة هامة قد أسيء فهمها عند الكثير من المراقبين لثورات الربيع العربي وهي قناعتهم بأن الثورات كلها مدعومة غربياً وأمريكياً لأنها تدعو للديمقراطية والحرية ونمط الفكر الغربي، في حين أن الثورات المضادة مدعومةٌ روسياً وصينياً وأن هذا من باب أن الطيور على أشكالها تقع؛ فالأنظمة الاستبدادية القمعية تدعم مثيلاتها من حكام العسكر في البلدان الأخرى، وهذا توصيف شائعٌ جداً ولكنه غير دقيقٍ أبداً. فالحقيقة هي أن الدول الكبرى كالولايات المتحدة والصين وروسيا وغيرها لا تنظر لقضايا الشعوب بعين الانصاف ولا تزنها بميزان العدل، بل هي مصالحُ فقط. فإن كانت مصلحة الدولة الكبرى الفلانية مع الثورة الشعبية خرجت لتتبنى شعارات دعم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وتدعو قوات الأمن إلى ضبط النفس وحفظ حق التظاهر ولاحقاً يفقد الرئيس شرعيته وربما تتدخل عسكريا لإسقاطه، وإن كانت مصلحة الدولة الكبرى الفلانية مع الثورة المضادة خرجت لتتبنى تصريحات الحفاظ على الأمن والسلم، ووحدة الأراضي ونظرية العصابات الارهابية وعدم التدخل الأجنبي.
كمثالٍ على هذا ما شهدته أوكرانيا ٢٠١٤ عندما خرجت تظاهرات شرق وجنوب أوكرانيا على الحاكم زيلنسكي الموالي للغرب، تم دعم الثورة من قبل الكرملين، وبدأنا نسمع شعارات الحرية والديمقراطية والتصويت الشعبي وحق تقرير المصير من الجانب الروسي الذي أطلق على ما جرى لفظ "الربيع الروسي"، في حين اختفى صنم العجوة هذا عند الجانب الغربي وبدأنا نسمع شعارات "وحدة أوكرانيا" وعدم تقسيمها واحترام القانون الدولي وتبخرت تماماً كل الأحاديث الأمريكية حول الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. مع أن هذه الأفكار هي أبجديات السياسية الدولية، إلا أنها تبدو وكأنها طرح غريب في عالم مؤدلج اصطف فيه الناس بين موالي للمعسكر الشرقي وآخر موالي للمعسكر الغربي. إن ما يجري على المسرح الدولي ببساطة هو عمليةُ اقتسامٍ للنفوذ، وتقاتلٍ على الكعكة الجيوسياسية.
فحلف النيتو لم يؤيد ثورة ليبيا لأجل الليبيين وحريتهم بل لإسقاط نظام يدور في فلك المعسكر الشرقي، ولم يتدخل في يوغسلافيا انتصاراً لأعراض المسلمات اللواتي أغتصبن على يد الصرب، بل لإسقاط دولة موالية لروسيا متمركزةٍ في أوروبا؛ ومن جهة أخرى روسيا لم تؤيد بشار في سوريا إلا لأنه يدور في الفلك الشرقي ويحمي مصالح الروس في المنطقة، وقد تنقلب الآية بشكل معاكس، فستجد الروس يؤيدون الثورة ويصدعون رؤوسنا بالحريات والحقوق، والأمريكان على عكس ذلك يدافعون على الثورة المضادة.
بعيداً عن الإصطفافات الفكرية بين مؤيد ومعارض لإعادة تدوير النظام السوري وعودته للجامعة العربية ورفع العزلة الدبلوماسية عن بشار الأسد ونظامه، فقد تمَّ تقسيم سوريا بحكم الأمر الواقع إلى مناطق نفوذ منها مناطق تحت حكم النظام السوري المدعوم روسياً وإيرانياً -الأحمر-، ومنها مناطق تحت حكم قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً وهي المناطق الغنية بالنفط -الأصفر-، وأخيراً مناطق تحت سيطرة المعارضة المدعومة تركيّاً بشقيها الأخضر والبنفسجي. هذه هي الصورة العامة للخريطة الجيوسياسية دون الخوض في جزئيات وتفاصيل أخرى، وبالنظر للخريطة فالمتحكم بالقرار السوري هم أربعة لاعبين دوليين هم روسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا، ومن المنطقي أنَّ أي توافق على حل سياسي يجب أن يحظى بموافقة هؤلاء اللاعبين الأربعة، وأي إقصاء لأي واحدٍ منهم يعني أن الحل ليس سياسي بل عسكري، أو لا وجود لحل ببساطة.
إنَّ الأطراف المتصارعة في سوريا تعتمدُ بشكلٍ كلي على القوى الخارجية وهم مجبرون إلى حد كبير على التبيعة لهم، إذْ أن أي انسحاب أو خلاف بين الداعم والمدعوم يعني سقوط المدعوم بفترة وجيزة، فما قيمة الأحاديث الجوفاء حول وحدة سوريا وهي مقسمة بحكم الأمر الواقع بشكل لا يمكن حله إلا بتراضي كل هذه الأطراف تابعاً كان أو متبوعاً؟.
باختصار إن الأمر أكبر بكثير من تبسمات السياسيين وعناقهم على الشاشات ولا أهمية تذكر لهذه التحركات على أرض الواقع، هل يظن عاقل أن الولايات المتحدة التي تسيطر على شرق سوريا ستخرج بعد هذه التحركات السياسية؟ أم هل يظن عاقل أن مقاتلي المعارضة سيسلمون سلاحهم للنظام السوري بهذه البساطة؟. وبناءاً على ما سبق فكل من يمد يده للنظام السوري في محاولة للإصلاح وإيجاد حل سياسي عادل تتوافق عليه الأطراف كلها فسيجد نفسه أمام طريق مسدود ومحاولاته محكوم عليها بالفشل الحتمي، وكل من يمد يده للنظام في محاولة لتعويمه وفرضه على السوريين فهو واهم ولن يجني من تحركه هذا إلا سقوطا أخلاقيا بمصافحة قاتل من غير جدوى، فالواقع يقول إن هذا النظام لا يمكن أن يعوم عمليا، وتبقى المحاولات الشكلية هي سقطات سيكتبها التاريخ كنقطة سوداء في تاريخ كل من يصافح رؤوس النظام.
وفي الختام نذكر بمصير نيفيل تشامبرلين -رئيس الوزراء البريطاني آنذاك- إذ قَصَمَتْ معاهدة ميونخ ١٩٣٨ الفاشلة شعبيته، وأنهت حياته السياسية بشكل مزري وأصبح اسمه لاحقاً مرادفاً لمصطلح الخيانة، بعد قيامه بثلاث زيارات في سبتمبر ١٩٣٨ إلى ألمانيا بهدف استرضاء هتلر ومحاولة إيجاد حل في بيئة مغلقة الحلول.
إبقَي قريبة، لا تذهبي بعيداً، ولا تُغلقي شيئاً. تفائلي، أحسني الظن، وأَعطي الأمر وقته فلا وردةَ تتفتحُ قبل وقتها، ولا شمسَ تُشرق قبل موعدها، فاصبري وأبشري.