S A L W A | 12/12/2022
-
كان ليث اختصاصياً في علم المناخ. وذات مساء، وبينما كان منهمكاً بكتابة مقاله عن النشاط الشمسي، إذ بباب حجرته يفتح فجأة، فتطلع حوله ورأى أمه تقول له بنبرة حالمة: إني آمل أن تتزوج يا ليث، لكي أتمتع بمشاهدة أحفادك قبل موتي
- ليس في مُكنتي الزواج يا أمي
تغير لون الأم وسألت بانزعاج: لماذا لا يمكنك الزواج؟
- لأنه في المستقبل، القريب أو البعيد، سوف تغمر المياه الأرض ويموت الناس. لن أتحمل رؤية أبنائي وهم غَرْقَى أمامي. ولكي أحفظهم من ميتة البحر، سأحْذُ حَذْوَ أبا العلاء المعري في عدم الإنجاب.
- يتملكني العجب منك يا ليث. كيف أمكنك أن تكون متشائماً؟.
- يا أماه!، دعيني أشرح لكِ خطورة المسألة. سنة بعد أخرى، يصبح مدار الأرض أكثر ميلاً في القرب من الشمس، مما يجعل الجبال الجليدية تذوب في المحيط وتسبب فيضانات مدمرة.
لم تكترث الأم بمنطق ابنها وقالت بقسم:
- إن لم تتزوج، فلن تكون لي بك أية صلة.
أمام إلحاح الأم، لم يكن للابن مناص من الاستجابة لمَطْلَبها. واقترن بالزواج من سيدة فاضلة. دار عقرب الزمن، وانصرمت الأيام، وتحقق حلم أم ليث وأصبحت جدة. إلا أن الطفلة الرضيعة قد تيتمت يوم ولادتها. وسُميت فيما بعد ب (لجين) وأصبحت الجدة ترعى حفيدتها بمحبة بالغة وأسبغت عليها ألواناً شتى من العطف والحنان. وبعد سنوات قليلة، ماتت الجدة وكانت لجين لا تزال تعيش سنواتها المبكرة. وهكذا استمر الأب وابنته بالعيش في بيتهم الواسع. تعلق ليث بلجين وكانت منه بمثابة القلب من الجسد. ولم ينس تدريبها على السباحة. مرت السنون سِراعاً، وأصبحت لجين تبلغ من العمر ثمان عشرة سنة. وكانت هادئة في أخلاقها وتمتلك عينين مفكرتين.
أتت الفرصة التي ينبأ فيها الأب ابنته بمصيرها ومصير العالم بأجمعه، فقال لها: "إني أعتذر لكِ يا أعز محبوبة، لأنني كنت أخفي عنكِ، طيلة وقت طويل، شيئاً جسيماً"
لم يوحِ التعبير الذي كان على وجهها بأنها قلقة، فقالت: أنا مصغية يا أبي إلى ما تقول.
- هل تذكرين جدتك يا لجين؟
- وكيف أنساها يا أبتِ، إذ لا يلوح لي في أفق طفولتي غير وجهها العذب المشرق
- هذا صحيح يا صغيرتي، لم تألفين أحداً سواها. والآن أخبركِ قصة البداية: كان لجدتك نُزُوع كبير إلى حُب الأطفال ومراقبة تصرفاتهم بمتعة، من أجل هذا ظلت تلح علي بأن أتزوج.
لم تنطق لجين بكلمة واحدة. أما الأب فقد استأنف خطابه:
منذ سنين خلت كنت عضواً في منتدى الجغرافيا الطبيعية، وقمنا بكتابة بحث علمي عن الحقب الزمنية التي تزداد فيها الحرارة التي تطلقها الشمس، وتبين لنا أن في ذلك تأثير خطير على القطبين: الشمالي والجنوبي. سوف يرتفع مستوى البحر تدريجياً ويموت الناس غرقاً. هذه الفرضية التي جرت بها أقلامنا، منذ مدة من الزمن، في طريقها الآن أن تصبح واقعاً يفجع مئات الملايين بالموت.
- كم من الزمن سيمر وتفيض البحار والمحيطات يا أبي؟.
- بوجه العموم، ليس كثيراً.
- إذن أمامنا القليل من الوقت ننتفع به يا أبي،- قالت لجين وكان وجهها الباسم يشع بالإيمان.
حينذاك تجمعت دموع الأب في عينيه وقال: " يشق علي أن أرى مكروهاً يصيبك يا ابنتي العزيزة إلى نفسي، إذ أن النجاة في هذه الأحوال تكون بنسبة صفر إلى عشرة."
أسرعت إليه ولفت ذراعها حول عنقه ورجته بأن يهدأ قائلة: "يا أبي العزيز، ما دمت أنت وأنا معاً في الحياة والموت فلن أقلق من شيء."
قالت الابنة المرحة بلهجة أمر: "والآن لنبتهج بأيامنا الحاضرة"
- كلمتك قانون بالنسبة لي يا بنيتي الحبيبة.
كفكف الأب دموعه ثم ابتسم.
- من أجل هذه البَسْمَة الحلوة التي على وجهك يا أبي الحبيب، سوف أدخل، في الحال، إلى المطبخ وأعد لكلينا عشاءً شهياً.
بعد مُضِيّ بضعة شهور على ذلك اليوم، حدث أن أتى الأب، مسرعاً، من الخارج ويحمل الخبر المشؤوم، وقال:
هيا يا لجين أعطني يدك ولنغادر بسرعة إلى أرض الله الواسعة، فالبقاء في البيت ليست خطة مأمونة العواقب. البحر العاتي في طريقه إلى البلاد.
- هيا يا أبي، فلنسرع إذن.
كادت لجين أن تتعثر ، أثناء إسراعها، لولا أن أمسك والدها بيدها وحال دون سقوطها أرضاً.
لم يبق أحد في بيته في ذلك المساء، فالجميع قد ولى الأدبار متجهين إلى الصحاري وقطع الأرض المهجورة.
قاد الأب سيارته على الطريق الرئيسي متوجهاً إلى الصحراء. وكانت مصابيح السيارة تكشف له الظلام الدامس. بدا أن جميع سكان الكرة الأرضية قد اختاروا نفس الصحراء، التي يقصدها، موئلاً لهم؛ فالجميع في حالة استنفار، ويضغطون على أبواق سياراتهم.
كان الأب، أثناء قيادته السيارة، يحول بصره إلى ابنته ويتكلف ابتسامة شجاعة. أما هي فقد زادت عليه في الشجاعة، حيث قالت: "ما أهمية أن نعيش في عالم ملآن بالفاقة والبطالة والمواجع يا أبي؟. إذا كتب الله، تعالى، لنا أن نموت غرقاً، فلتكن مشيئته".
تأثر الأب بكلمات ابنته وقال: "يا عزيزتي لجين، أعرف أنكِ تفكرين وتشعرين بصورة مختلفة عن كثيرات من النساء، فليباركك الله نظير احساسك المرهف"
قطع الأب مسافات شاسعة في الصحراء؛ لأنه أراد الوصول إلى مكان لم يبلغه أحد. ثم أوقف السيارة في البقعة التي شعر فيها بالأمان.
- يا عزيزتي لجين، هل نمتِ.
أنا يقظى يا أبتِ،- قالت لجين بتثاقل وتعب.
- هل أنتِ متعبة؟.
- كلا.
همست الفتاة بوهن ووضعت يدها الباردة في يد والدها فشدد هو قبضته عليها.
- أبي! أنا أحبك.
ألقت الفتاة برأسها على كتف أبيها ثم نامت.. وبهذه الطريقة خمدت فيها جمرة الحياة.
- ما خطبك؟ هيا أفيقي!
قفز قلب الأب بين ضلوعه في اللحظة التي كان يهزها من نومها وكانت شفتاه ترتعش
- لجين!!
تبعت هذه الكلمة صرخة مذعورة من الأب المكلوم.
بيد أن الكارثة لم تأبه للجرح العميق في قلب الرجل الكهل. إذ، عند مطلع الصباح، بدأ البحر يجتاح الأرض ماحياً كل أثر للموجودات. وفقدت السهول الرملية شكلها بصفتها صحراء جدباء.
- عزيزتي الصغيرة، سوف أتركك تنامين هنا بسلام. سأنضم إليك عما قريب! ولكن لا بُدَّ من القتال قبل الموت.
أغلق ليث باب السيارة وراح يخوض حتى ركبتيه في الماء. ودع ابنته النائمة، من خلف زجاج النافذة، بنظرة أخيرة، ثم رمى بنفسه فوق السيارة؛ لأن مستوى منسوب البحر كان مستمراً في الارتفاع. بعد فترة يسيرة، اِنْغَمَرت السيارة في الماء. ودُفِع ليث بعيداً بسبب الموج، وكان يرتفع بارتفاعه وينخفض بانخفاضه، ويختفي تحت الزبد الكثيف. وكان يكافح بكد وبطولة، لكن قوة البحر كانت تتطلب منه كفاحاً مميتاً. رأى ليث فوق سطح الماء جثث الناس الكثيرة تتمايل بين الأمواج. ضربت الموجة الهائلة ليث الضربة القاضية. وأخيراً، صمت قلبه المحب وعقله البصير إلى الأبد.
التعديل الأخير: