الحب بعد الصباح الثلاثمائة .. وكوب القهوة الألف (1 زائر)


MEG

‏لَا أُؤمن بالنُّدرة، أُؤمن بالوَفرة وأُؤمن بالعوَض وأُؤمن أنّ في الحياةِ سَعة
إنضم
23 فبراير 2023
رقم العضوية
13302
المشاركات
4,615
الحلول
1
مستوى التفاعل
17,174
النقاط
1,089
أوسمتــي
16
الإقامة
الجزَائر
توناتي
13,440
الجنس
أنثى
LV
3
 
تمعنتُ جيدًا الأقواس المبعثرة المرسومة على خدي -أختي- المتوردين، تلك العلامات التي تُسمى –خطوط الابتسامة– أو ما شابه…
فبعد أن تفحصت معالم البيت الجديد بعيني طفلة تُجيد التعبير أكثر من الصمت، تكلمت بصوتٍ الخافت، كاتمة ضحكتها:
"تبقّى فقط ضوء جيد!"

نعم، لأن أضواء الغرف كانت خافتة حدّ الكسل، ناعسة كأنها لا ترغب في أن تفضح أركان البيت الجديد.
تمامًا كما كنا نعيش قديمًا على نور الشمس، أما ليلًا فسرعانما نغفو قبل أن نكتشف كم الظلال المخبوءة في الجدران.

ولا أذكر أن ديارنا قد ضمت يومًا ضوءًا قويًا إطلاقًا.
طوال طفولتي، كانت الإضاءة في بيتنا لا تُظهر التفاصيل، وتفتح المجال لمخيلتك من أجل توقع بقية الطريق...

ذكرياتي كلها مرسومة في آخر غرفة من الدار، تلك التي طليت جدرانها بلون بنفسجي ناعم. غرفة واسعة مقسمة لجزئين: قسم مغلف بستارة بيضاء منسدلة ناعمة للكبار المرتبين، وقسم الأسرة الداكنة والمطارح المبعثرة والصناديق التي لا أعلم إن كانت تخبئ فيه -ألعابنا- أو تخبئ فيه الأيام التي لا نُريد نسيانها، لكن لا نُريد الحديث عنها أيضًا.

كأنني في تلك الغرفة عشت داخل فقاعة زمنية مسرعة… لا ضوءٌ بديل عن الشمس يجعلني أتناسى سرعة الغروب، ولا أفرشة مريحة تمنحني نومًا هنيئًا يشتتني عن قصر الليل.

أكبر همومي آنذاك أن أتصالح مع أختي كي نُكمل لعبتنا التي بدأناها البارحة.
لعبتنا التي لم نُكملها بسبب نزال تافه: من سرق الدمية؟ من خرّب الترتيب؟ من صرخت أولًا؟ من بكت أخيرًا؟
كنا نتصالح دائمًا بلا شروط، لأننا كنا نعلم أن الظلام سيهبط قريبًا، وأن اللعب في العتمة مستحيل.

البيت القديم لم يكن ضيقًا، لكن الضوء فيه كان شحيحًا كما لو كان يُحاسبنا على كل لحظة فرح.
وكانت أمي تقول دائمًا إن المصابيح القوية "تُتعب العين"، وإن البيت الطيب لا يحتاج إلى ضوء "صناعي".
كنت أؤمن بكلامها، دون أن أعرف أنني سأكبر لاحقًا وأُطيل التحديق في المصابيح القوية في منازل الآخرين، فقط لأتأكد إن كانت الحياة في البيوت الساطعة أوضح فعلًا.

كثير من الأشياء كانت رمادية في ذلك البيت…
ذكريات الشتاء مثلًا، نركض حفاة على بلاط بارد، نلتف ببطانية واحدة، نأكل طبق شوربة واحد، ونتقاتل على الطرف الأقرب للمدفأة.
لكني أتذكر كل هذه اللحظات بصور قاتمة…
هل لأنها حدثت في الضوء الخافت؟ أم لأن الذاكرة لا تملك "فلاشًا" جيدًا؟

حتى وجه أبي، أراه في ذاكرتي غير واضح.
ظهره أوضح.
ظلّه أوضح.
جلسته في المطبخ أوضح.
لكن عينيه؟ لا أستطيع استحضارهما. ربما لأن الضوء لم يكن كافيًا في بيتنا لنراها جيدًا.

ذات ليلة، انقطعت الكهرباء.
تجمّعنا حول شمعة. أذكر كيف غيّر اللهب الظلال على وجوهنا.
كنا نضحك أكثر، كأن العتمة تجعلنا نتصرف بأريحية.
قالت -أختي- حينها: "هكذا أحلى من المصباح!"
نظرت إليها أمي وقالت: "العتمة لا تخيف من تعوّد على أن لا يرى."
لم أفهم وقتها.
لكني الآن أعي بعض الشيء: أن بعض الذكريات لا تحتاج ضوءًا.

من قلب الغرفة البنفسجية. من صوت أخيتي وهي تتنفس في سريرها الآخر. من رائحة بطانية مشتركة. من حرارة ضوء لا نراه، لكنه يحمينا.

مرت سنوات، وانتقلنا إلى بيت جديد.
أضواء بيضاء، ومصابيح قوية، وسقف مرتفع، ونوافذ واسعة…
لكن -أختي- لم تعد تقول شيئًا.
ولم نعد نتصالح بنفس السرعة.
كل واحدة منا حصلت على غرفتها، وسريرها، ونافذتها، لكن الدمى لم تُبعث من جديد.
لم نعد نكمل اللعب.
صرنا نُغلق الأبواب، ونشعل مصابيحنا كلٌّ على حدة.

في أحد الأيام، دخلت غرفتها القديمة وحدي.
وقفت عند زاويتها، أغمضت عينيّ…
وحاولت أن أسترجع شكل الضوء في بيتنا القديم.
تذكرت شيئًا بسيطًا جدًا، لكنه فجّر الدموع في عيني:

كنا نعرف طريقنا جيدًا في ذلك البيت، رغم ضعف الضوء.
كنا لا نصطدم بالأثاث، لا نتوه، لا نحتاج لهاتف يضيء الدرب…
كنا نتحرك بالذاكرة، بالحواس، بالألفة، بالطمأنينة.

اليوم؟ البيت مضاء بما يكفي، لكنّي أتعثر.
لا أجد الباب بسهولة، ولا أعرف مكان المفتاح، ولا أسمع ضحكة أختي من خلف
الجدار.

الضوء الجديد الذي لم يكن كافيًا ليحتوي العائلة..

----

مسودة لمشاهد غير حقيقية تخيلتها وأنا على حافة النوم هيرو4

 

المتواجدون في هذا الموضوع

أعلى أسفل