نازعتني نفسي إلى الذهاب إلى الصحراء. حسنٌ، غداً أنطلق بعد منتصف الليل؛ سوف أغتنم الإجازة. لدي شغف من نوع خاص: حُبّ التسكع في البرية. أحب هذه الحياة رغم المخاطر الجمة. في شتاء العام الماضي قُدتُ سيارتي إلى أرض رملية توجد بها طبقة صخرية مكنونة أسفلها. صَفَفْتُ سيارتي هناك. ومضيتُ أتجول بدراجتي الهوائية في متسع من الأرض حول سهل يستنقع فيه الماء من ماء المطر. كانت الإبل تشرب منه. وفي العام الذي قبله ذهبت إلى بيئة صحراوية شبه قاحلة حيث النباتات القاسية المتناثرة في نطاق واسع من الأرض. أثناء تسكعي رغبةً في معابثة الحيوانات الصغيرة، غيبتُ قدمي في ساق نَبْتِ العرفج فإذ بأرنب يقفز من مخبأه وقد أسرع إسراعاً ثم اختفى في الأفق خلال ثوانٍ.
هذه المرة سوف أذهب إلى مكان وظروف أصعب. من يجرؤ على الذهاب إلى النفود في فصل الصيف؟ حسناً، لا يهم ما دمت أملك سيارة رحلات، وطعاماً كافياً وجهاز ملاحة للبر. بسم الله الرحمن الرحيم. أدرتُ محرك السيارة. في هذا الوقت الكُلُّ في بيته غيْرِي. سيارتي تقطع الأميال في الطريق المُسَفَّلَت. أبصر نقطة ضوء أمامي في البُعد. قد يكون هذا من فعل جن الطريق. يقول الآباء والأجداد: إن أبو فانوس جني يُغري المسافر في اللحاق به بهدف إضلاله في الصحراء وإيذائه. أتجاهل ذاك الضوء الغامض وأضع كامل انتباهي على الطريق. وأظل هكذا حتى تشرق الشمس. الضباب في الصباح يبعث في نفسي البهجة بلطافة الجو. ينقشع الضباب بعد ارتفاع الشمس. الأرض الفضاء لا نبات بها على طول الطريق. التضاريس متنوعة في هذه المساحة الكبيرة: إما أرض جافة أو كثبان رملية، أو مزيج من كليهما. أُفرغُ من إطارات السيارة بعض الهواء؛ إجراء لا بد منه لمن يريد التوغل فوق الرمال الكثيفة. سيارتي تسير في لانهائية الصحراء مثل الدَبَّابة. الصحراء تعني التِيْه المجهول لأغلب الناس. لكن سيارتي القوية تُسري عني وتُبقي على شجاعتي. سيارتي في هذه الظروف تمثل الصاحب والصديق والبيت. بيت متنقل فيه ثلاجة وماء بارد وطعام يكفي لخمسة أشخاص تحسباً لحالات الطوارئ. أفكر بالأمر على هذا النحو اللطيف المفعم بالثقة. أنا لن أُطيل المقام أكثر من ليلتين من الأساس. أستذكر موقفاً في الصِغَر، كان لدينا خيمة في منطقة صحراوية مفتوحة. ذات مرة دخلتُ الخيمة لأجلب السُّكر فلمحتُ فأْرة صغيرة تأكل من تمرة ملقاة على الأرض. وما أن رأتني تلك الفُوَيْسقة حتى تسربت تحت دولاب الأدراج المخصص لِلَوازم الشاي والقهوة. كنتُ أرى الفئران دائما في الخيمة حين لا يكون فيها أحد. مخلوقات جُبلت على الاختباء في أي شيء تجده في طريقها: خيمة، سيارة متروكة في أرض خالية، بيت مهجور.
الشَّمْسُ اصْفَرَّتْ. يجب أن أستقر في مكان قبل أن يركب ظلام الليل إلى الصحراء. أظنني سوف أتوقف عند تلك البقعة. أستلقي على التراب الناعم وأتمدد لأُبعد عن جسمي وعظامي عَثَاء الرحلة. أظل هكذا لدقائق عديدة، لا أفعل شيئاً، حتى أستوعب أنني بقيتُ وحيداً في هذا الفضاء الساكن الذي يبدو لا يوجد فيه أحد غيري من الخلائق، وكأنني لوحدي في كوكب الأرض. أنا وحيدٌ في الصحراء. وفي مرجوَّي أن أخرج منها حيّاً. وإذا متُ هنا فهو إذن قدري الذي جئتُ إليه بمركبتي. احتمال الموت هو الثمن الذي تطلبه الصحراء؛ فرغم أنها لا تقدم الطعام لساكنيها لكنها تقدم السكينة لمرتاديها. لهذا السبب بي جنوح إلى التوغل في دروبها الغامضة على الدوام مهما كانت التحديات والمجازفات. الصحراء مرادف الانزواء عن الناس، وعدم الاصطدام بالغرباء والأقرباء. الصحراء طريق الهروب من عَسْف الأفراد. الصحراء شفاء للمتعبين من داء اسمه الناس. الخلوة مع الذات في مكان مثل هذا المكان تجعلك تحس أنّكَ أرحب نفساً وأعمق حساً وأخصب خيالاً. هذا المكان، الذي لا حَدَّ له، يفتح عقلك على خيالات ومشاعر وافتراضات هي غير ممكنة في أماكن غيره.
الشمسُ تغربُ وخيمتي الصغيرة مُنْسَدِلة على التراب الناعم في الخَلاءِ. آكل شطيرة فلافل وأشرب العصير. نسيم المساء العليل يداعبني. لقد تفتحت نفسي. لقد عُدتُ من جديد حُلْوُ المرح. الليل بعث فيّ روح الامتنان والحُبّ. في هذه النفود لا يوجد أحد عاقل سواي. لكني لا أستوحش. ما أحلى ألا ينسى الإنسان روحه. الروح غذاؤها العزلة. كما قال المتصوفون القدماء: عن الناس عزلة. صحيح أنّ الصحراء فقيرة من الحياة النباتية والحيوانية، لكن أقل شيء أجد فيها الصفاء. راحة البال. ولأنها خالية من التلوث الضوئي. فرصتي النادرة لرؤية النجوم. أكثرْ بالنجوم عدداً وبهاء ونوراً. يُخيل إليّ أنها تنبع من عمق الكون. أتأمل نجوم الصيف. هناك في جهة الشرق نجم أحمر مُلفت لمعانه. أَعرفهُ، نجم الزوبعة. وذلك نجم الشعرى اليمانية، يبدو أزرق اللون. سبحان الله! أرى نجماً يهوي في السماء على هيئة خط من ضياء. لقد زادني المشهد غِبْطة على غِبْطة. قلب ظامئ كان لي قبل هذه الليلة. أما أثناءها فقلبي يعمر من استفاضة السعادة. هذه الليلة أعادت لي باقتدار الطفل الداخلي الذي سرقته مني الأيام. أُديم بنظري المتبحر في صفحة السماء باحثاً عن كوكبة السلحفاة وكوكبة القوس. كوكبتان متقاربتان من بعضهما البعض. يحدوني هذا الشعور الغريب، ثمة قرب عاطفي بين النجوم مثل القرب العاطفي بين الأصدقاء. هناك نجم له ضياء شمسي وكأنه ضوء مصباح. ينبثق منه النور ويكاد يشعُ أكثر فيُنير الليل كشمسٍ ثانية. ذلك هو كوكب المشتري جاء من عرض سابحاً في الفضاء ضمن كوكبة الحوت. إنه أبيض لامع مائل للصفرة. إنه كوكب بديع وغامض. وذاك نجم الدَّبَران، لونه برتقالي متوهج. ما أسطع ضوءه! يعرفه أهل البادية ويهتدون به في أسفارهم في البيداء. هناك نجوم باهتة بالكاد تلاحظها، خجولة أو كأنها حلم بعيد أو دنيا من الأماني المستحيلة. يغزوني هذا التفكير الحالم المتأمل، كل واحد من الناس أخفى حلماً أو رغبة دفينة في نجم من نجوم السماء. كل نجم فيه حياة، ولكل نجم من النجوم قصة تماماً مثلنا نحنُ البشر. الشعراء كلهم اجتمع رأيهم في روعة النجوم. لقد وصف ابن زمرك النجوم في شعره، حيث قال:
وكأنّ النجومَ في غَسَقِ الليْلِ
جُمانٌ يلوح من آبنوسِ
وكأنَّ الصباحَ في الأفق يُجْلَى
بحُليِّ النجوم مثلَ العروس
وكأنّ الرياض تهدي ثناءً
للغنيّ بالله فوق الطروسِ
بلى والله لإنه صادق! ليتني كنتُ ممن مضوا قبلنا، قبل اكتشاف الكهرباء، لكي أرى هذا الذي أراه كل يوم ومن فناء بيتي. حيث لا حاجة إلى سفر طويل في الفلاة المترامية.
نزلتُ من السماء إلى الأرض ناظراً خيمتي: اللّيْل والنجوم يغمران الخَيْمَة باللون البرتقالي. كأن المشهد رسمه طفل مبدع: لّيْل ونجوم لمّاعة وخيمة لونها برتقالي. أجلس في خيمتي متربعا فوق مِرْتَبة إسْفنْجية مُريحة جداً. سوف أنام عليها الليلة. سقف الخيمة يكاد يلامس قمة رأسي، ولو فردتُ ذراعيّ للامست أصابعي جدرانها. الخيمة تعطيني الأمان مثل بيت صغير. أشعر فيها أن كل شيء تحت السيطرة. أتستر في قلب الخيمة عن عيون العفاريت والشياطين. يُقال إنَّ الشياطين تنتشر في الليل وخصوصاً في البر. تسكن أي شيء، كهف أو حفرة أو تحت أي صخرة أو جسم حيوان أو جسم إنسان. تعوذتُ بالله من الشيطان الرجيم! الليل يُحيط بالخيمة وأنا بداخلها مثل نبي لا يسمح للعيون أن تراه فتلوثه انطباعاتهم وأحكامهم! من طهارته لا يجب أن يُرى. أريد أن أتخيل نفسي نبياً ما بقيتُ هنا. في هذا الوقت الذي اعتدنا أن نكون فيه جائعين لكل شيء، الجوع لأذى الغير أكثر من الجوع إلى الطعام، من الصعب أنْ يكون الإنسان صالحاً فما بال أنْ يكون نبياً. أُوقد شمعة وأقرأ ما يتيسر لي من النفائس: الأدب الإنساني والتراث الأصيل. في الأدب جمالٌ، والله جميل يحب الجمال. بعد أخذ قسط من القراءة أشرب كوب ماء بارد وأضع أمامي ملء طبق من ثمرات شجرة السدر (النَّبْق). الزُهْد من سَجيَّة النبيّ. يا ألله، امنحني مسجداً بصَوْمَعة مرتفعة في وسط الصحراء لكي أصلي فيه وحدي وأكون جديراً بعبادتك كما تحب أن تُعبد.
عندما كنتُ طفلاً وأصلي في المسجد، كان الرجال يضربونني بأعينهم الغاضبة، ووجوههم المتجهمة المتغضنة وأيديهم الخشنة. ربما لأنني طفلٌ قد يتصرف بقلة احترام في مكان عام، لقد زرعوا بِي الخوف من فكرة الوجود في بيتك. الحق أنّه كانت على وجهي الطفولي آنذاك علامات تأذن بالاستعداد لإطلاق قنبلة ضاحكة ناجمة عن أيما حركة مفاجئة من أي شخص كان. كل شيء كان يفاجئني في طفولتي. على أية حال الرجل الذي أنا عليه اليوم يتقبل الطفل الذي كنتُهُ في الأمسِ قبولاً حسناً.
الهدوء يعمُّ الأجواء ويساعد على إغفاء عينيّ. نمتُ في سلام وكأنني راقدٌ فوق أرضية مصعد وينزل بي إلى أعماق الأرض حيث السكون وصمت المقابر. إلى أرض النائمين السالمين الهانئين. كان أعمق نوم عرفته في حياتي.
أفيق من نومي وتكون الشمس طالعة. ما أجملها! الصباح هواؤه منعش. أتناول طعام الفطور. خبز أسمر وكوب لبن منعش. ثم أتمشى في العراء وعصاتي بيدي أتحسس بها ما يمكن أن يكون تحت الرمل. لم أرَ أي صقر في السماء أو حيوان في الأرض. فقط رأيتُ جحراً. قد يكون لذئب عربي. الصراحة أقول: ما أقدر الذئاب على تحمل الشقاء. أتابع استكشاف المكان، أوه! عظاءة هربت تحت صخرة. فكرت بأن أرفع الصخرة لمطاردتها لكني تذكرت أنه من الخطر تحريك أيما صخرة كبيرة الحجم أو متوسطة. ربما خرجت لي حيّة ولدغتني؛ عندئذ سوف أموت من غير ريب بسبب مطاردة تافهة. أتابع سيري واضعاً يدي فوق عينيّ. إنّ أشعة الشمس عالية جداً وبشكل عمودي. هذه خنفساء تهيم فوق الرمال الناعمة. إنّ وجودها جداً هام في الصحراء؛ تبني جحوراً صغيرة في التربة فتجعل التربة تتنفس.
لأنّ الجو بدأ يسخن أسكب الماء فوق قبعتي. لا أستطيع حتى النظر في قرص الشمس. لكأنها كرة ساخنة تمنح الطهارة لهذه الأرض. معي جهاز ترمومتر. سوف أقيس درجة حرارة الطقس. إنها 49° سيليزية.
أُسرع إلى الخيمة لئلا أُصاب بضربة شمس. أرسم بخيالي بيت الله القابع هنا في الصحراء. مسجد كبير على شكل مربع مناسب ليكون لي بيتاً وحياةً. الخط العربي منقوشٌ على الجدران والسقف. مِن كِبَرِ المسجد، الكثبان الرملية سوف تستغرق الدهر لتُغطيه. أتذكر جيداً، في صغري، كانت السيارة تقطع بنا الطريق الصحراوي. هناك كنتُ أرى مسجداً ذا مِئذنة. كان المسافرون يصلون فيه أو يتزودون من براد ماء السبيل. الحكومة قامت ببنائه. وغرست بجواره أشجار الأثل. ولقد أَحسنتْ صنيعاً بهذا. أينما وُجِد مسجدٌ يجب أن تُزرع حوله الأشجار وتوفر فيه الماء ليكون واحة للمسافرين المتعبين وواحة للعصافير. ما زالت صورة ذلك المسجد، المُطلّ على الصحراء، لا تبرح مخيلتي. كم تمنيتُ أنْ أكون مكان الموظف المعني بنظافة المكان. لو كنتُ مكانه إذن لتشرفتُ بهذه الوظيفة. أنظف المسجد والمكان المخصص لدورة المياه. ويكون لي مُلْحَق المسجد أنام فيه. أستقبل المسافرين، الذين يُقبلون على المسجد أنضاء، بابتسامة طيبة تُهوّن عليهم تعب الطريق. أكون نقطة ضئيلة والمسجد نقطة أكبر مني في وجه محيط الصحراء. أنا بعيدٌ عن الناس ولكن في خدمة الناس. أكون نقطة متوسطية بين التحفة المعمارية وبين المساحات الرملية الشاسعة. أكون الفاصلة بين ابداع الإنسان، وعظمة الطبيعة. أتذكر كان فوق مِئذنة ذلك المسجد طائر اللّقْلَق وقد بنى عشه. كم كان جميلاً أبيض قوياً!
انطلاقاً من هذه الذكرى من عهد الطفولة الغضّة يخطر ببالي سؤال: ماذا لو سُمح للمحرومين من المأوى، الذين جارت عليهم الدنيا، أنْ يناموا في جامع كبير؟ أبد الدهر. وفيه يتم تقديم حلقات الأدب والعلم. وتوزيع الطعام على الفقراء. يا لها من بركات ورحْمات! لو تم ذلك لصَحَّ القول: إنّ الأموال تُوضع في الصالح العام. التعاضد الإنساني بخير إذن. لطالما اعتبرت أنّ المسجد والمِحْراب والجامع بالنسبة لي هو مكان مُقْترن بحالة عاطفية ترتقي إلى مرتبة الفن.
الخيمة في الصحراء تساوي قيمة البيت، تحميني من القَيْظ. أبلّل رأسي بالماء. وفي غضون ذلك أنتظر نضوج اللحْم في الشوَّاية. آكل موزة وبرتقالة وأحتفظ بالقشور. لن أطرحهما في الرمال. سوف أحتفظ بما يتبقى من الطعام؛ لأجل صديقي. صديقي الرائع يجمع بقايا الطعام من الناس كمواد عضوية نباتية أو حيوانية؛ لتسميد غابته بها. صديقي أنشأ الغابة في منطقة برِّية قريبة من المدينة. جعلها جنة وحديقة من الشجر. تخضير صحرائنا غايتنا. بعد مرور ثلاثة أعوام، بدأ يقطف ثمرة جهده وصبره. رأى كذا وكراً لثعلبٍ، وطائر البلبل فوق غصن شجرة الأكاسيا الصحراوية. ورأى أيضاً اليَرْبُوع مساءً.
سوف أنام هنا هذه الليلة أيضاً. معي زادي وشرابي. السيارة مزوَّدة بكل ما يحتاجه محبو المغامرات. لا قلق ولا خوف ولا مشكلة. استحضرتُ حال الجنود في الحرب. في الحالات القُصوى، إذا انقطعت عنهم الإمدادات العسكرية فإنهم يبدأون بأكل الحيوانات والنباتات البرية.
تغربُ الشمسُ ويأتي اللَّيْل. أشعلتُ الحطب. يخطر ببالي خاطر يملأني رعباً: ماذا لو أتاني شخص وأنا في هذه الأرض المقطوعة عن العالمين. أول ما سوف أفعله هو النظر إلى قدميّ الشخص! إذا كانت له قدمان طبيعيتان فسوف أعرف أنّه بشرٌ. أما إذا كانت لديه قدما ماعز فسوف أعرف أنّه جني!
وفجأة سمعتُ صرخة في الجوار! ما هذا الصوت؟ أُرهِف السمع جيداً. أتناول ضوء المصباح الكشّاف. أثناء ذلك تخطر ببالي مائة فكرة وكلُّ فكرة أَرْعَب من أختها. أحقاً ما أرى؟ بنات آوى. لا خطر مُحتمل منها على ما يبدو لي؛ قرأتُ في وقتٍ سابق مقال بيئي عنها. بنات آوى لا تهاجم البشر إلا في حالات نادرة. أقوم بتحضير طعام العشاء وكأن شيئاً لم يحدث. لقد طبختُ عشاء دسماً: أرز ودجاج. آكل عشاءي وما يفيض منه أتركه في البعيد من أجل هذه الحيوانات الجائعة. إنني أقوم بنفس الدور البيئي الذي تقوم به الجمعية الوطنية لحماية البيئة؛ إذ تقوم أحياناً برمي جيف الأبقار النافقة في الصحراء من أجل الذِّئاب وبقية المُفْتَرِسات لمساعدتها على البقاء. هذا بخلاف إنشاؤها مناهل الماء في الصحراء على شكل بِرَك؛ لإسقاء الحيوانات.
كيلومتر واحد، مسافة أمان جيدة لبنات آوى. حرام! هذه الحيوانات مسكينة. وأنا أُرهِفُ السمعَ لصوت أي خطوة، أُعدُّ الشاي. حصل المأمول! بنات آوى تدافعن على الطعام.
أدخل خيمتي لأنام حتى أستيقظ فجراً ابتغاء الرحيل عن الصحراء. يا لهول الأمر! أسمع عواء ذئب في الخارج. لا تخف! لا تخف! أبعث الطمأنينة في نفسي. لا يجب أن أستخدم سلاحاً؛ لأنني أنا المتطفل في أرضه. أفضل أن يأكلني الذئب على أن أساهم في إنقاص عدد الذئاب ذئباً واحداً! عموماً الخيمة والنار هما سلاحاي الوحيدان وهما كافيان، على ما أظُن. ولكن رَكِّز مع صوته: صوته مُعبّر عن الحزن والنّوح! يُشبه صوت إنسان منتحب في أجواء مأْتمية. صوتهُ يثير فيك إحساساً غامضاً لا تفهمه. لحظة، تذكرت! لقد جذبته رائحة الطعام الذي رميته لبنات آوى. إذن لن يهتم الذئبُ لي إن شاء الله. هذا ما أتمناه. مع مرور الدقائق تطمأن نفسي وأستشعر الأمان. لم أعد أسمع عواء ولا دبيب خطوات. لا ذئبَ في الجوار. حمدالله أنني لستُ شاة لكنتُ الآن في بطن الذئب! أنام مثل ظَبْي من شدة القلق من عودة الذئب مرة ثانية. أُزكي النار كلما خفّ سعيرها.
في الصباح أغادر المكان وقد تركته نظيفاً كما دخلتهُ أول مرة. قضيتُ يومين هنا. لقد كانا يومان من العمر لن أنساهما ما حييت. حقاً في الصحراء لي حياة.
هذه المرة سوف أذهب إلى مكان وظروف أصعب. من يجرؤ على الذهاب إلى النفود في فصل الصيف؟ حسناً، لا يهم ما دمت أملك سيارة رحلات، وطعاماً كافياً وجهاز ملاحة للبر. بسم الله الرحمن الرحيم. أدرتُ محرك السيارة. في هذا الوقت الكُلُّ في بيته غيْرِي. سيارتي تقطع الأميال في الطريق المُسَفَّلَت. أبصر نقطة ضوء أمامي في البُعد. قد يكون هذا من فعل جن الطريق. يقول الآباء والأجداد: إن أبو فانوس جني يُغري المسافر في اللحاق به بهدف إضلاله في الصحراء وإيذائه. أتجاهل ذاك الضوء الغامض وأضع كامل انتباهي على الطريق. وأظل هكذا حتى تشرق الشمس. الضباب في الصباح يبعث في نفسي البهجة بلطافة الجو. ينقشع الضباب بعد ارتفاع الشمس. الأرض الفضاء لا نبات بها على طول الطريق. التضاريس متنوعة في هذه المساحة الكبيرة: إما أرض جافة أو كثبان رملية، أو مزيج من كليهما. أُفرغُ من إطارات السيارة بعض الهواء؛ إجراء لا بد منه لمن يريد التوغل فوق الرمال الكثيفة. سيارتي تسير في لانهائية الصحراء مثل الدَبَّابة. الصحراء تعني التِيْه المجهول لأغلب الناس. لكن سيارتي القوية تُسري عني وتُبقي على شجاعتي. سيارتي في هذه الظروف تمثل الصاحب والصديق والبيت. بيت متنقل فيه ثلاجة وماء بارد وطعام يكفي لخمسة أشخاص تحسباً لحالات الطوارئ. أفكر بالأمر على هذا النحو اللطيف المفعم بالثقة. أنا لن أُطيل المقام أكثر من ليلتين من الأساس. أستذكر موقفاً في الصِغَر، كان لدينا خيمة في منطقة صحراوية مفتوحة. ذات مرة دخلتُ الخيمة لأجلب السُّكر فلمحتُ فأْرة صغيرة تأكل من تمرة ملقاة على الأرض. وما أن رأتني تلك الفُوَيْسقة حتى تسربت تحت دولاب الأدراج المخصص لِلَوازم الشاي والقهوة. كنتُ أرى الفئران دائما في الخيمة حين لا يكون فيها أحد. مخلوقات جُبلت على الاختباء في أي شيء تجده في طريقها: خيمة، سيارة متروكة في أرض خالية، بيت مهجور.
الشَّمْسُ اصْفَرَّتْ. يجب أن أستقر في مكان قبل أن يركب ظلام الليل إلى الصحراء. أظنني سوف أتوقف عند تلك البقعة. أستلقي على التراب الناعم وأتمدد لأُبعد عن جسمي وعظامي عَثَاء الرحلة. أظل هكذا لدقائق عديدة، لا أفعل شيئاً، حتى أستوعب أنني بقيتُ وحيداً في هذا الفضاء الساكن الذي يبدو لا يوجد فيه أحد غيري من الخلائق، وكأنني لوحدي في كوكب الأرض. أنا وحيدٌ في الصحراء. وفي مرجوَّي أن أخرج منها حيّاً. وإذا متُ هنا فهو إذن قدري الذي جئتُ إليه بمركبتي. احتمال الموت هو الثمن الذي تطلبه الصحراء؛ فرغم أنها لا تقدم الطعام لساكنيها لكنها تقدم السكينة لمرتاديها. لهذا السبب بي جنوح إلى التوغل في دروبها الغامضة على الدوام مهما كانت التحديات والمجازفات. الصحراء مرادف الانزواء عن الناس، وعدم الاصطدام بالغرباء والأقرباء. الصحراء طريق الهروب من عَسْف الأفراد. الصحراء شفاء للمتعبين من داء اسمه الناس. الخلوة مع الذات في مكان مثل هذا المكان تجعلك تحس أنّكَ أرحب نفساً وأعمق حساً وأخصب خيالاً. هذا المكان، الذي لا حَدَّ له، يفتح عقلك على خيالات ومشاعر وافتراضات هي غير ممكنة في أماكن غيره.
الشمسُ تغربُ وخيمتي الصغيرة مُنْسَدِلة على التراب الناعم في الخَلاءِ. آكل شطيرة فلافل وأشرب العصير. نسيم المساء العليل يداعبني. لقد تفتحت نفسي. لقد عُدتُ من جديد حُلْوُ المرح. الليل بعث فيّ روح الامتنان والحُبّ. في هذه النفود لا يوجد أحد عاقل سواي. لكني لا أستوحش. ما أحلى ألا ينسى الإنسان روحه. الروح غذاؤها العزلة. كما قال المتصوفون القدماء: عن الناس عزلة. صحيح أنّ الصحراء فقيرة من الحياة النباتية والحيوانية، لكن أقل شيء أجد فيها الصفاء. راحة البال. ولأنها خالية من التلوث الضوئي. فرصتي النادرة لرؤية النجوم. أكثرْ بالنجوم عدداً وبهاء ونوراً. يُخيل إليّ أنها تنبع من عمق الكون. أتأمل نجوم الصيف. هناك في جهة الشرق نجم أحمر مُلفت لمعانه. أَعرفهُ، نجم الزوبعة. وذلك نجم الشعرى اليمانية، يبدو أزرق اللون. سبحان الله! أرى نجماً يهوي في السماء على هيئة خط من ضياء. لقد زادني المشهد غِبْطة على غِبْطة. قلب ظامئ كان لي قبل هذه الليلة. أما أثناءها فقلبي يعمر من استفاضة السعادة. هذه الليلة أعادت لي باقتدار الطفل الداخلي الذي سرقته مني الأيام. أُديم بنظري المتبحر في صفحة السماء باحثاً عن كوكبة السلحفاة وكوكبة القوس. كوكبتان متقاربتان من بعضهما البعض. يحدوني هذا الشعور الغريب، ثمة قرب عاطفي بين النجوم مثل القرب العاطفي بين الأصدقاء. هناك نجم له ضياء شمسي وكأنه ضوء مصباح. ينبثق منه النور ويكاد يشعُ أكثر فيُنير الليل كشمسٍ ثانية. ذلك هو كوكب المشتري جاء من عرض سابحاً في الفضاء ضمن كوكبة الحوت. إنه أبيض لامع مائل للصفرة. إنه كوكب بديع وغامض. وذاك نجم الدَّبَران، لونه برتقالي متوهج. ما أسطع ضوءه! يعرفه أهل البادية ويهتدون به في أسفارهم في البيداء. هناك نجوم باهتة بالكاد تلاحظها، خجولة أو كأنها حلم بعيد أو دنيا من الأماني المستحيلة. يغزوني هذا التفكير الحالم المتأمل، كل واحد من الناس أخفى حلماً أو رغبة دفينة في نجم من نجوم السماء. كل نجم فيه حياة، ولكل نجم من النجوم قصة تماماً مثلنا نحنُ البشر. الشعراء كلهم اجتمع رأيهم في روعة النجوم. لقد وصف ابن زمرك النجوم في شعره، حيث قال:
وكأنّ النجومَ في غَسَقِ الليْلِ
جُمانٌ يلوح من آبنوسِ
وكأنَّ الصباحَ في الأفق يُجْلَى
بحُليِّ النجوم مثلَ العروس
وكأنّ الرياض تهدي ثناءً
للغنيّ بالله فوق الطروسِ
بلى والله لإنه صادق! ليتني كنتُ ممن مضوا قبلنا، قبل اكتشاف الكهرباء، لكي أرى هذا الذي أراه كل يوم ومن فناء بيتي. حيث لا حاجة إلى سفر طويل في الفلاة المترامية.
نزلتُ من السماء إلى الأرض ناظراً خيمتي: اللّيْل والنجوم يغمران الخَيْمَة باللون البرتقالي. كأن المشهد رسمه طفل مبدع: لّيْل ونجوم لمّاعة وخيمة لونها برتقالي. أجلس في خيمتي متربعا فوق مِرْتَبة إسْفنْجية مُريحة جداً. سوف أنام عليها الليلة. سقف الخيمة يكاد يلامس قمة رأسي، ولو فردتُ ذراعيّ للامست أصابعي جدرانها. الخيمة تعطيني الأمان مثل بيت صغير. أشعر فيها أن كل شيء تحت السيطرة. أتستر في قلب الخيمة عن عيون العفاريت والشياطين. يُقال إنَّ الشياطين تنتشر في الليل وخصوصاً في البر. تسكن أي شيء، كهف أو حفرة أو تحت أي صخرة أو جسم حيوان أو جسم إنسان. تعوذتُ بالله من الشيطان الرجيم! الليل يُحيط بالخيمة وأنا بداخلها مثل نبي لا يسمح للعيون أن تراه فتلوثه انطباعاتهم وأحكامهم! من طهارته لا يجب أن يُرى. أريد أن أتخيل نفسي نبياً ما بقيتُ هنا. في هذا الوقت الذي اعتدنا أن نكون فيه جائعين لكل شيء، الجوع لأذى الغير أكثر من الجوع إلى الطعام، من الصعب أنْ يكون الإنسان صالحاً فما بال أنْ يكون نبياً. أُوقد شمعة وأقرأ ما يتيسر لي من النفائس: الأدب الإنساني والتراث الأصيل. في الأدب جمالٌ، والله جميل يحب الجمال. بعد أخذ قسط من القراءة أشرب كوب ماء بارد وأضع أمامي ملء طبق من ثمرات شجرة السدر (النَّبْق). الزُهْد من سَجيَّة النبيّ. يا ألله، امنحني مسجداً بصَوْمَعة مرتفعة في وسط الصحراء لكي أصلي فيه وحدي وأكون جديراً بعبادتك كما تحب أن تُعبد.
عندما كنتُ طفلاً وأصلي في المسجد، كان الرجال يضربونني بأعينهم الغاضبة، ووجوههم المتجهمة المتغضنة وأيديهم الخشنة. ربما لأنني طفلٌ قد يتصرف بقلة احترام في مكان عام، لقد زرعوا بِي الخوف من فكرة الوجود في بيتك. الحق أنّه كانت على وجهي الطفولي آنذاك علامات تأذن بالاستعداد لإطلاق قنبلة ضاحكة ناجمة عن أيما حركة مفاجئة من أي شخص كان. كل شيء كان يفاجئني في طفولتي. على أية حال الرجل الذي أنا عليه اليوم يتقبل الطفل الذي كنتُهُ في الأمسِ قبولاً حسناً.
الهدوء يعمُّ الأجواء ويساعد على إغفاء عينيّ. نمتُ في سلام وكأنني راقدٌ فوق أرضية مصعد وينزل بي إلى أعماق الأرض حيث السكون وصمت المقابر. إلى أرض النائمين السالمين الهانئين. كان أعمق نوم عرفته في حياتي.
أفيق من نومي وتكون الشمس طالعة. ما أجملها! الصباح هواؤه منعش. أتناول طعام الفطور. خبز أسمر وكوب لبن منعش. ثم أتمشى في العراء وعصاتي بيدي أتحسس بها ما يمكن أن يكون تحت الرمل. لم أرَ أي صقر في السماء أو حيوان في الأرض. فقط رأيتُ جحراً. قد يكون لذئب عربي. الصراحة أقول: ما أقدر الذئاب على تحمل الشقاء. أتابع استكشاف المكان، أوه! عظاءة هربت تحت صخرة. فكرت بأن أرفع الصخرة لمطاردتها لكني تذكرت أنه من الخطر تحريك أيما صخرة كبيرة الحجم أو متوسطة. ربما خرجت لي حيّة ولدغتني؛ عندئذ سوف أموت من غير ريب بسبب مطاردة تافهة. أتابع سيري واضعاً يدي فوق عينيّ. إنّ أشعة الشمس عالية جداً وبشكل عمودي. هذه خنفساء تهيم فوق الرمال الناعمة. إنّ وجودها جداً هام في الصحراء؛ تبني جحوراً صغيرة في التربة فتجعل التربة تتنفس.
لأنّ الجو بدأ يسخن أسكب الماء فوق قبعتي. لا أستطيع حتى النظر في قرص الشمس. لكأنها كرة ساخنة تمنح الطهارة لهذه الأرض. معي جهاز ترمومتر. سوف أقيس درجة حرارة الطقس. إنها 49° سيليزية.
أُسرع إلى الخيمة لئلا أُصاب بضربة شمس. أرسم بخيالي بيت الله القابع هنا في الصحراء. مسجد كبير على شكل مربع مناسب ليكون لي بيتاً وحياةً. الخط العربي منقوشٌ على الجدران والسقف. مِن كِبَرِ المسجد، الكثبان الرملية سوف تستغرق الدهر لتُغطيه. أتذكر جيداً، في صغري، كانت السيارة تقطع بنا الطريق الصحراوي. هناك كنتُ أرى مسجداً ذا مِئذنة. كان المسافرون يصلون فيه أو يتزودون من براد ماء السبيل. الحكومة قامت ببنائه. وغرست بجواره أشجار الأثل. ولقد أَحسنتْ صنيعاً بهذا. أينما وُجِد مسجدٌ يجب أن تُزرع حوله الأشجار وتوفر فيه الماء ليكون واحة للمسافرين المتعبين وواحة للعصافير. ما زالت صورة ذلك المسجد، المُطلّ على الصحراء، لا تبرح مخيلتي. كم تمنيتُ أنْ أكون مكان الموظف المعني بنظافة المكان. لو كنتُ مكانه إذن لتشرفتُ بهذه الوظيفة. أنظف المسجد والمكان المخصص لدورة المياه. ويكون لي مُلْحَق المسجد أنام فيه. أستقبل المسافرين، الذين يُقبلون على المسجد أنضاء، بابتسامة طيبة تُهوّن عليهم تعب الطريق. أكون نقطة ضئيلة والمسجد نقطة أكبر مني في وجه محيط الصحراء. أنا بعيدٌ عن الناس ولكن في خدمة الناس. أكون نقطة متوسطية بين التحفة المعمارية وبين المساحات الرملية الشاسعة. أكون الفاصلة بين ابداع الإنسان، وعظمة الطبيعة. أتذكر كان فوق مِئذنة ذلك المسجد طائر اللّقْلَق وقد بنى عشه. كم كان جميلاً أبيض قوياً!
انطلاقاً من هذه الذكرى من عهد الطفولة الغضّة يخطر ببالي سؤال: ماذا لو سُمح للمحرومين من المأوى، الذين جارت عليهم الدنيا، أنْ يناموا في جامع كبير؟ أبد الدهر. وفيه يتم تقديم حلقات الأدب والعلم. وتوزيع الطعام على الفقراء. يا لها من بركات ورحْمات! لو تم ذلك لصَحَّ القول: إنّ الأموال تُوضع في الصالح العام. التعاضد الإنساني بخير إذن. لطالما اعتبرت أنّ المسجد والمِحْراب والجامع بالنسبة لي هو مكان مُقْترن بحالة عاطفية ترتقي إلى مرتبة الفن.
الخيمة في الصحراء تساوي قيمة البيت، تحميني من القَيْظ. أبلّل رأسي بالماء. وفي غضون ذلك أنتظر نضوج اللحْم في الشوَّاية. آكل موزة وبرتقالة وأحتفظ بالقشور. لن أطرحهما في الرمال. سوف أحتفظ بما يتبقى من الطعام؛ لأجل صديقي. صديقي الرائع يجمع بقايا الطعام من الناس كمواد عضوية نباتية أو حيوانية؛ لتسميد غابته بها. صديقي أنشأ الغابة في منطقة برِّية قريبة من المدينة. جعلها جنة وحديقة من الشجر. تخضير صحرائنا غايتنا. بعد مرور ثلاثة أعوام، بدأ يقطف ثمرة جهده وصبره. رأى كذا وكراً لثعلبٍ، وطائر البلبل فوق غصن شجرة الأكاسيا الصحراوية. ورأى أيضاً اليَرْبُوع مساءً.
سوف أنام هنا هذه الليلة أيضاً. معي زادي وشرابي. السيارة مزوَّدة بكل ما يحتاجه محبو المغامرات. لا قلق ولا خوف ولا مشكلة. استحضرتُ حال الجنود في الحرب. في الحالات القُصوى، إذا انقطعت عنهم الإمدادات العسكرية فإنهم يبدأون بأكل الحيوانات والنباتات البرية.
تغربُ الشمسُ ويأتي اللَّيْل. أشعلتُ الحطب. يخطر ببالي خاطر يملأني رعباً: ماذا لو أتاني شخص وأنا في هذه الأرض المقطوعة عن العالمين. أول ما سوف أفعله هو النظر إلى قدميّ الشخص! إذا كانت له قدمان طبيعيتان فسوف أعرف أنّه بشرٌ. أما إذا كانت لديه قدما ماعز فسوف أعرف أنّه جني!
وفجأة سمعتُ صرخة في الجوار! ما هذا الصوت؟ أُرهِف السمع جيداً. أتناول ضوء المصباح الكشّاف. أثناء ذلك تخطر ببالي مائة فكرة وكلُّ فكرة أَرْعَب من أختها. أحقاً ما أرى؟ بنات آوى. لا خطر مُحتمل منها على ما يبدو لي؛ قرأتُ في وقتٍ سابق مقال بيئي عنها. بنات آوى لا تهاجم البشر إلا في حالات نادرة. أقوم بتحضير طعام العشاء وكأن شيئاً لم يحدث. لقد طبختُ عشاء دسماً: أرز ودجاج. آكل عشاءي وما يفيض منه أتركه في البعيد من أجل هذه الحيوانات الجائعة. إنني أقوم بنفس الدور البيئي الذي تقوم به الجمعية الوطنية لحماية البيئة؛ إذ تقوم أحياناً برمي جيف الأبقار النافقة في الصحراء من أجل الذِّئاب وبقية المُفْتَرِسات لمساعدتها على البقاء. هذا بخلاف إنشاؤها مناهل الماء في الصحراء على شكل بِرَك؛ لإسقاء الحيوانات.
كيلومتر واحد، مسافة أمان جيدة لبنات آوى. حرام! هذه الحيوانات مسكينة. وأنا أُرهِفُ السمعَ لصوت أي خطوة، أُعدُّ الشاي. حصل المأمول! بنات آوى تدافعن على الطعام.
أدخل خيمتي لأنام حتى أستيقظ فجراً ابتغاء الرحيل عن الصحراء. يا لهول الأمر! أسمع عواء ذئب في الخارج. لا تخف! لا تخف! أبعث الطمأنينة في نفسي. لا يجب أن أستخدم سلاحاً؛ لأنني أنا المتطفل في أرضه. أفضل أن يأكلني الذئب على أن أساهم في إنقاص عدد الذئاب ذئباً واحداً! عموماً الخيمة والنار هما سلاحاي الوحيدان وهما كافيان، على ما أظُن. ولكن رَكِّز مع صوته: صوته مُعبّر عن الحزن والنّوح! يُشبه صوت إنسان منتحب في أجواء مأْتمية. صوتهُ يثير فيك إحساساً غامضاً لا تفهمه. لحظة، تذكرت! لقد جذبته رائحة الطعام الذي رميته لبنات آوى. إذن لن يهتم الذئبُ لي إن شاء الله. هذا ما أتمناه. مع مرور الدقائق تطمأن نفسي وأستشعر الأمان. لم أعد أسمع عواء ولا دبيب خطوات. لا ذئبَ في الجوار. حمدالله أنني لستُ شاة لكنتُ الآن في بطن الذئب! أنام مثل ظَبْي من شدة القلق من عودة الذئب مرة ثانية. أُزكي النار كلما خفّ سعيرها.
في الصباح أغادر المكان وقد تركته نظيفاً كما دخلتهُ أول مرة. قضيتُ يومين هنا. لقد كانا يومان من العمر لن أنساهما ما حييت. حقاً في الصحراء لي حياة.